لا ينطبق المثل الشائع على كل الحالات بإطلاقها، فمن يتذرّع بهذا المثل الذي يقول "في التأنّي السلامة وفي العجلة الندامة"، فإنه بذلك يدعو إلى استنزاف الوقت، وتقديم المزيد من الخسائر والأثمان على حساب الأهداف الوطنية.
لقد صرف الفلسطينيون الكثير من الوقت، الذي طغى عليه التأنّي من دون معنى، والتردد، وانتظار فرص، لكن الآخرين وليس فقط الآخر الإسرائيلي يتحركون بسرعة شديدة، وبفرض وقائع ثقيلة، وذات أبعاد استراتيجية على كامل المنطقة وليس فقط على ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فيما تنحسر الخيارات وتتضاعف المخاطر.
يمكن وصف العرب والفلسطينيين منهم بطبيعة الحال، بأنهم أمّة كلام، يكثرون منه بلا معنى، ويحجمون عن ممارسته، وفي أحيانٍ أخرى، يذهب الكلام في اتجاه معاكس للنوايا والدوافع، فلا يترك ذلك إلاّ مزيداً من الغموض والتضليل.
في سياق الصراع الطويل، يبدو أن العدو الإسرائيلي أكثر نجاحاً في قراءة خصومه من العرب، فيما يقصر العرب في فهم وتحليل الآخر، ونقصد الاحتلال الإسرائيلي، والمشروع الصهيوني.
التصريحات والقرارات والدراسات، والاستخلاصات، التي تصدر عن، مؤسسات وزعماء إسرائيليين لا تنتمي إلى عالم اللغويات الفارغة، فإذا راجعنا ما صدر منها على طول فترة الصراع، فإن علينا الإقرار بأن كل ما قيل تقريباً، وجد ترجماته على أرض الواقع.
هل نتحدث عن سياسة الفصل، والاستيطان، والأمن، والحدود، والجدران واستراتيجية من النيل إلى الفرات، واحتمال تزاوج المال العربي مع العقل الإسرائيلي، وعن السلام الاقتصادي، وعن القدس ، أم نتحدث عن سيناريوهات السياسة الإسرائيلية في خضمّ الانتفاضة الشعبية الكبرى وما آلت إليه الأوضاع منذ ذلك الوقت؟
هل نتحدث عن دور إسرائيل الفاعل في وقوع واستمرار وتعميق الانقسام الفلسطيني، وفصل غزة عن الضفة، وإخضاعها لحصار ظالم مشدد، لتبديد القوة الفلسطينية، وتعميق الصراع بين أطرافها، وصولاً إلى خلق وقائع من الصعب تجاوزها، وصولاً إلى فرض دولة أو كيان غزة؟
ماذا قال الإسرائيليون الذين تم التوقيع على اتفاقية أوسلو معهم، ألم يصروا على "غزة أولاً"، ثم رضخوا مؤقتاً تحت إصرار الزعيم الراحل ياسر عرفات، ليقبلوا بشعار "غزة - أريحا أولاً"، وها هي سياستهم تشير إلى أن أريحا باعتبارها قلب منطقة الغور، تقع ضمن مشاريع، الضمّ الإسرائيلية.
دعونا نصدق ما تردده " حماس " و"فتح"، وكل الفصائل، من أنها ترفض دولة في غزة، ودولة دون غزة، ولكن الآخر الإسرائيلي يراكم المزيد من أسباب القوة، وتحقيق المزيد من الإنجازات الشاملة لكي يكون صاحب القرار ليس على المشهد الفلسطيني الإسرائيلي وإنما على الإقليم بكامله.
بعد صمت إسرائيلي له أسبابه التكتيكية، عن التبشير بقصة دولة غزة، يعود آفي ديختر، ليسجل انتقادات مهمة للسياسة الإسرائيلية خلال المرحلة السابقة، ويدعو إلى تصحيح تلك الأخطاء.
غيورا آيلاند، هو رئيس سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي، وهو يتمتع بقدرات فكرية وبحثية جيدة، بين أقرانه من المسؤولين الأمنيين والعسكريين السابقين والحاليين وكان المروّج الأهم لفكرة دولة غزة المتوسعة في أجزاء من سيناء، والسماح بتطوير عمليات التنمية والاستثمار، وتحسين أوضاع الناس.
في مراجعته للسياسة الإسرائيلية، يقول، إن إسرائيل أخطأت حين امتنعت عن اتباع سياسة التخلص من الأبعاد القانونية التي تتصل بمسؤولية الاحتلال عن قطاع غزة.
في شهر أيلول 2007، اتخذت إسرائيل قراراً باعتبار قطاع غزة كياناً معادياً، لكنها اختارت لترجمة ذلك مساراً أمنياً إذ شدّدت الحصار وشنّت ثلاث حروب كبيرة على القطاع عدا اعتداءاتها، الصعبة التي تكاد تكون يومية.
كلف ذلك إسرائيل، استمرار مسؤوليتها القانونية والإنسانية عن قطاع غزة، وكان انسحابها من القطاع العام 2005 مصدراً للقلق، بالنسبة لكثير من الفلسطينيين الذين اعتقدوا أن ذلك الانسحاب سيشكل بداية سياسة ممنهجة للتنصل من مسؤولياتها كدولة احتلال لكنها لم تفعل الأمر الذي شكل أحد أبرز انتقادات آيلاند.
يضيف، إنه كان على إسرائيل، أن تسمح ببناء مطار وميناء في غزة، وأن تسمح لتركيا بمعالجة أزمة الكهرباء حين أبدت استعدادها لتزويد القطاع بالتيار الكهربائي من خلال سفينة ترسو على شواطئ قطاع غزة.
ولعلّ الأهم أن آيلاند يقول، إنه كان على إسرائيل أن تعترف، بالكيان السلطوي القائم في قطاع غزة، وأن تتعامل معه بكل الطرق التي يتم التعامل من خلالها بين الدول.
والسؤال: هل يمكن تجاهل مدى الأهمية والخطورة التي ينطوي عليها كلام شخصية نافذة من مستوى آيلاند، وما إذا كان لكلامه علاقة وثيقة بالتطورات السياسية الجارية؟
إن التدقيق في الوقائع الجارية، وقراءة مآلاتها القريبة يشير إلى أن الأوضاع تتجه نحو ما يشير إليه آيلاند حتى لو اعترض الفلسطينيون، وهم معترضون حقيقة إذا صدقنا ما يصدر من تصريحات.
إن خارطة ترامب للدولة الفلسطينية، التي يرفضها الإسرائيليون حتى الآن، ويسعى الأميركيون بالتعاون مع دوائر عربية كثيرة لفرضها، تشير إلى أن هذه الدولة ستكون في غزة مع جيوب تتحكم فيها إسرائيل في الضفة الغربية.
وبصراحة، ليس للأمر علاقة بمن سيكون في البيت الأبيض في ضوء الانتخابات التي ستجري بعد أسبوع أو أقل، فإذا كان ترامب فإنه سيواصل بتفويض شعبي أميركي، أما إذا كان بايدن فإنه لن يتراجع عن القرارات والوقائع التي فرضها سلفه على الأرض، خاصة في غياب إرادة عربية راضية ومتحمّسة لما قدمه ترامب.
هذا يعني أن طريق البحث عن سلام ومفاوضات على أساس رؤية "الدولتين" بحسب قرارات الأمم المتحدة، قد أصبح حلماً من الماضي.
وأقول أكثر من ذلك حتى لو أراد بايدن في حال فوزه بكرسي الرئاسة، فإن التعارضات بين مواقف الرئاسة الأميركية، وبين إسرائيل، لن تؤدي إلى انصياع إسرائيل حين لا تكون القرارات الأميركية لصالحها.
إن تجربة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لا تزال ماثلة للعيان فهو لم ينصع فقط أمام الإصرار الإسرائيلي وإنما تلقّى إهانات وتوبيخا أكثر من مرة من قبل مسؤولين إسرائيليين.
السؤال، إذاً، هو لماذا يتلكأ الفلسطينيون في موضوع إعادة بناء الحالة الفلسطينية، رغم كثرة وصعوبة الاعتراضات؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية