بقلم الباحث في الشئون السياسية/ د. رائد نجم
شهدت العلاقات الوطنية الفلسطينية مداً وجزراً على امتداد تاريخ الكفاح الفلسطيني، وكان لذلك أثره على القضية الفلسطينية وعلى اهداف الشعب الفلسطيني في انجاز الحرية والاستقلال. وقد تأثرت العلاقات الوطنية بثلاثة عوامل قادتها الى حالة الشلل الحالية، وهي منطق اللعبة الصفرية في العلاقة بين الفصائل، وثانياً سعي بعض الفصائل الى تقسيم القوة في النظام السياسي الفلسطيني وفق مفهوم توازن القوة والخصخصة الحزبية، وثالثاً العامل الجيوسياسي.
اذا تجاوزنا الايديولوجيا وكذلك البرامج السياسية والتي يمكن القول انه تم طمس الحدود بينها، يمكن لمنطق اللعبة الصفرية ان يفسر سلوك الاطراف الفاعلة في العلاقات الوطنية الفلسطينية، خاصة بشأن الأصول المختلفة محل التنافس بينها من سلطة، وموارد، وامتيازات أخرى. حيث ساد الاعتقاد لدى الفصائل انه إذا حصل أحد الاطراف على جزء من هذا الأصل، فيجب أن يخسر طرف آخر الحصة المعادلة، وهكذا تكون المحصلة صفر للطرف الخاسر، اي خسارة أحد الاطراف هي ربح للآخر. المنطق المعاكس لهذه الطريقة في الادراك هو منطق اللعبة اللاصفرية، تكون فيه المحصلة موجبة أو على الأقل لا صفرية لجميع الاطراف. قد يحدث ذلك من خلال عملية ديمقراطية تفضي الى حالة من الشراكة بأدوات الحكم المعاصر مثل حكومة وحدة وما إلى ذلك، وهو الامر الذي ما زال غائياً ليبقى منطق اللعبة الصفرية هو السائد.
تجسد منطق اللعبة الصفرية في استخدام حماس القوة المسلحة للسيطرة على القطاع ضد حكومة الوحدة الحادية عشرة التي كانت جزءاً منها، ومحاولتها مد التجربة للضفة. وامعاناً في منطق اللعبة الصفرية تتحدث حماس بشكل مستمر عن الاحتفاظ بالحكم المباشر او غير المباشر في قطاع غزة تحت مبدأ "غادرنا الحكومة ولكننا لم نغادر الحكم"، وحالياً تحاول اضافة المزيد لمحصلة مكاسبها كدخول مؤسسات م ت ف والحصول على الشرعية الدولية والمشاركة في الحكم من خلال حكومة وحدة، وأصبحت لأجل ذلك جاهزة لتجاوز الايديولوجيا والبرامج وخصومات الماضي وخوض الانتخابات في قائمة مشتركة مع حركة فتح الاخر الوطني الذي تنافسه وتقلده.
مقاربة السلطة لمنطق اللعبة الصفرية ينطلق من مكانة م ت ف التاريخية، وشرعيتها الثورية، والانجازات التي حققتها على مدار القضية بما فيها تأسيس السلطة الفلسطينية، وحالة عدم اليقين تجاه هوية حماس واجندتها التي تتجاوز الحدود الوطنية، وارتباطاتها، لذلك يغلب الحذر على فكرة الشراكة الوطنية. وربما كان لنتيجة تجربة استيعاب وتوطين حماس في انتخابات 2006 أثر على منطق السلطة حيث انتهت التجربة بسيطرة مسلحة تم تبريرها من جانب حماس باستباق اجراءات مضادة من طرف فتح تحت شعار اطلاق يد المقاومة وهو تفسير لم تقبله السلطة، ولم يصمد امام الاختبار الشعبي على مدار اربعة عشر عاماً من حكم حماس لقطاع غزة والذي تراجعت فيه المقاومة وغابت عنه التنمية. وقد نظرت السلطة لمنطق اللعبة الصفرية من جانب حماس كإضعاف شامل غير مسبوق للموقف الوطني وفرص الحل السياسي.
العامل الثاني الذي أثر على العلاقات الوطنية هو سعي كل فصيل لخلق قوة موازية لتحقيق توازن قوى وخصخصة العام لصالح الحزب. والتفسير البسيط هنا هو اعتقاد بعض الفصائل بضرورة مراكمة القوة لضمان وجود حالة من توازن القوة مع م ت ف والسلطة التي تمتلك الشرعية والاعتراف الدوليين، والقرار السياسي من خلال سيطرتها على الجهاز البيروقراطي المدني والعسكري الامني. وقد أفرز هذا الاعتقاد انقسام غائر بين قطاع غزة والضفة الغربية وأوجد اجهزة موازية وحكم مواز وعلاقات خارجية موازية وسلاح مواز. وهذا أضر بأهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وقلص الزخم الدولي الداعم لحقوقه وقدم ذريعة لبعض الانظمة العربية لتجاوز الحقوق الفلسطينية والتطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي.
ان توازن القوى الحقيقي هو المعمول به في كافة دول العالم المستقرة هو استخدام الاليات الديمقراطية للوصول للحكم والمحاسبة، والفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهي التي من شأنها ان تخدم اهداف الشعب الفلسطيني وتوفر الاستقرار للعلاقات الوطنية والنظام السياسي دون مغامرات فصائلية، وارتباطات اقليمية تخدم الفصيل الوكيل والطرف الاقليمي الداعم له على حساب الحق الاصيل في انجاز الاستقلال والدولة.
العامل الثالث الذي أثر في العلاقات الوطنية هو العامل الجيوسياسي والمقصود به السيطرة الجغرافية على اقليم بمعزل عن الحكومة المركزية، وادارة سياسة خارجية خاصة، ويتمثل في سيطرة حماس على قطاع غزة، بمعزل عن الحكومة المركزية المعترف بها في الضفة الغربية. وفي ادارتها لسياسة خارجية خاصة كان لها تأثير كبير على النظام السياسي الفلسطيني واهداف الشعب الفلسطيني. أدارت السلطة الفلسطينية المسؤولة عن السياسة الخارجية علاقات رسمية مع المحيط الاقليمي العربي باعتباره عمقاً للقضية الفلسطينية وداعماً لها.
من جهتها ادارت حركة حماس سياسة خارجية خاصة تمثلت في الانفتاح على ايران، ورغم دفاع حماس عن هذه العلاقة باعتبارها حيوية لدعم المقاومة، الا ان تأثير ايران وخطها السياسي كانا واضحين في مواقف حماس من التسوية السياسية، ثم في قرارها بالسيطرة المسلحة على قطاع غزة، والذي قاد الى الانقسام وتعطيل الاهداف الكلية للشعب الفلسطيني. وارتباطاً بتفاعلات الاقليم ومع بروز الدور التركي في الاقليم اصبحت حماس اقرب للتأثير التركي القطري المشترك مع وجود خلفية مشتركة للطرفين كقوى اسلام سياسي. وقد ساهم هذا الدور في سياسة اكثر واقعية من قبل حماس استجابة لمتطلبات الحكم في غزة، ولكنه لم ينجح في انهاء الانقسام في انعكاس واضح للخلافات الاقليمية على المشهد السياسي الفلسطيني. وهكذا اصبحت مكونات النظام السياسي الفلسطيني تدير علاقات خارجية متناقضة.
وقد باعد التطبيع بين السلطة والنظام الرسمي العربي، ووضع مكونات النظام السياسي الفلسطيني امام تحدي الاختيار بين البقاء في المربع العربي الموافق على التطبيع، او قبول دعم اطراف اخرى للحقوق الفلسطينية حتى لو وجد فيها الطرف العربي خصماً. وما لم تنشأ اليات جديدة لتحريك العملية السياسية ستحاول هذه الاطراف ملأ الفراغ مع استمرار الرفض الفلسطيني ل صفقة القرن . وقد يسعى المحور التركي القطري الى ذلك مستغلاً التباعد الحاصل بين السلطة والنظام العربي الرسمي في مد نفوذه ليشمل النظام السياسي الفلسطيني كله من خلال انجاح جهود اعادة دمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني الرسمي لتحظى بالشرعية، وذلك في اطار تعزيز اوراق القوة لمرحلة ما بعد الانتخابات الامريكية، والاحتفاظ بها في مواجهة المحور العربي الاسرائيلي قيد التشكل.
لذلك فإن ترميم العلاقات الوطنية في ظل التحديات القائمة، يعتمد الى حد معين على تغيير المفاهيم التي تحكم مواقفها تجاه العلاقات الوطنية من اجل مستقبل أفضل، والذي يأمل ان يتجاوز عامل اللعبة الصفرية بعامل الجميع رابح، ومنطق توازن القوة والخصخصة الحزبية بشراكة وطنية وفقاً للآليات الديمقراطية وتأميم المنافع والقوة، وعامل السيطرة الجغرافية المنفصلة والسياسة الخارجية الخاصة بتحقيق الوحدة الجغرافية والسياسية وتوطين الاهداف وتوحيد السياسة الخارجية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية