لا يثير سري نسيبة الغبار لكنه بالعادة يلقي حجراً في بركة المياه التي أسنت، مثله مثل أي فلسطيني يشتغل بالشأن السياسي أو الثقافي وكذلك الأكاديمي.


فقد اعتاد الرجل أن يحرك شيئا ما في لحظة ما ويثير الجدل حولها وأحيانا تكون شديدة الواقعية حد السواد ولا يمكن لأحد في هذه المرحلة أن لا يرى هذا اللون في هذه اللحظة التاريخية شديدة التعقيد.


لكن الحل ليس اليأس ولا الوهم. فكلا النظرتين تقود لنفس النهاية فاليأس يعني الاستكانة ولأن السياسة كائن حي فهي دائمة الحركة ولا تعرف السكون، ولأن الوهم صناعة الخيال فهو جيد للسينما لكنه في عداوة دائمة مع الواقع لأنه يشكل حالة تواطؤ على الواقع ويجرف معه المستقبل أو يبقي خطوات السياسة معلقة ومنفصلة.


المقال الأخير الذي كتبه نسيبة ذهب في واقعيته المعتادة حد فقدان الخيارات لشعب تواطأ عليه التاريخ والقوى العظمى بكل ما تملك من إمكانيات ولكنه ظل يشاكس دون أن يختفي بل ويعود كل مرة رقما لا يمكن تجاوزه وقضية هي الأولى في المنطقة، هذا ما قاله إسرائيليون بعد طرح صفقة القرن وإقدام دول عربية على التطبيع مع إسرائيل كان هناك صوت يقول إن كل هذا لا يمكن أن يخفي القضية الفلسطينية ولا يساعد نتنياهو على طمسها.


الواقع شديد القسوة ومن لا يرى حطام المؤسسات الفلسطينية وأولويات الفلسطينيين بالحكم وحجم التغيير الذي يجتاح العالم وحتى الشعب الفلسطيني، ومن لا يرى عدم القدرة على تحريك الشارع الفلسطيني في أشد قضاياه الوطنية حساسية بحاجة إلى قراءة من نوع آخر أكثر واقعية من ثنائية الجدل الدائر بين اليأس والحلم.


فلا اليأس يخرجنا من الحالة بل يزيدها تعقيدا ولا الحلم أيضا قادر على مجاراة الواقع وفي كليهما ما يشبه الدعوة سواء الصريحة أو الخفية للاستكانة وانتظار الفرج.


كثير من الأفكار أصبح متداولا ويتوزع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من سحب الاعتراف بإسرائيل وإلغاء الاتفاقيات معها والعودة للعمل المسلح إلى حد إغلاق ملف الحقوق الوطنية والبحث عن حقوق إنسانية وما بينهما من حل الدولة الواحدة أو ثنائية القومية وغيره.


ربما في عالم الفكر السياسي وكل يقدم ما لديه وما يبرر قوله لكن السبب في كل هذا هو أزمة الاصطدام بالحائط التي وقع بها المشروع الوطني ووقع ينزف بجانب الجدار، والمسألة الثانية حالة السكوت التي تمر بها الفصائل واستمرار خطابها ورجالها بنفس المسار وبنفس السياسة وبنفس الأساليب التي ثبت أنها تسببت بهذا الاصطدام، أي أن حالة الفراغ الناشئة هي من فتحت باب الاجتهاد السياسي.


من الطبيعي أن ينشأ الجدل الذي نتج عن حالة الفراغ والتيه، كل يحاول البحث عن مسار الخروج من المتاهة، يصل لدى البعض حد انتظار الموت والآخر حد إلقاء الذات في البحر لكن كل الخيارات أو الفكر السياسي التي ينبغي التأمل بمضمونها تبدو مصابة بتشوش اللحظة وليست بذلك الصفاء الذي يمكن التعاطي معه، وربما أن هذا الأمر طبيعي عندما يلقي حجرا في بركة آسنة فالمياه ليست نقية كي يكون ما يتحرك بهذا الوضوح.


لكنّ في كل ما طرح ويطرح مسألتين تبدوان لا تؤخذان بعين الاعتبار بكل النقاش الصاخب والذي ترافقه اتهامات، فهو ليس هادئا بل في غاية التوتر وهذا طبيعي فحين تفقد الشعوب ثقتها بنفسها تصبح شديدة العصبية أو عندما تنحسر الخيارات ويتجلي التوهان فإن من يقدم شيئا فإن الآخرين يخافون معتقدين أن هذا المسار من الممكن أن يؤدي إلى مزيد من الضياع أو يؤدي بهم إلى متاهة أكبر.


المسألة الأولى أن كل تلك الخيارات التي تنطلق يائسة أو حالمة تتجاوز حل الدولتين، وهذا أمر خاطئ خصوصا أن مفهوم حل الدولتين أصبح إجماعا دوليا، وقد قاتل الفلسطيني طويلا ليأخذ هذا الاعتراف الذي أصبح جزءا من المنظومة السياسية للمجتمع الدولي وللثقافة السياسية العالمية بمعنى أن للفلسطينيين دولة وإن كانت مؤجلة وإن كان هذا اعترافا نظريا تسلح بقرار من الأمم المتحدة، وأصبحت تلك الدولة عضواً حتى وإن كان غير فاعل وأن كل الفعل الإسرائيلي لينزع هذا عن جدول الأعمال الدولي، فلماذا يقدم الفلسطيني هذا التنازل بهذه السهولة للإسرائيلي في لحظة يأس، وكما قال أحد الأصدقاء على الفلسطيني أن يظل يردد حل الدولتين محافظا على ذلك في الوعي العالمي.


المسألة الثانية أن الحديث عن حل الدولة الواحدة أو الحقوق المدنية أو التعايش بشكل سوي هو جهل بالفكر القومي الذي تقوم عليه دولة إسرائيل وتنزاح أكثر باتجاهه، وهو فكر قائم على رفض الآخر ويستمد ثقافته من الأساطير القديمة «في سفر عزرا عاد الحاخامان عزرا ونحميا ووجدا أن من تبقى من اليهود بعد السبي البابلي في فلسطين تزوجوا وتعايشوا مع الفلسطينيين فعفرا التراب على رأسيهما لأن العرق تلوث» وكلما انزاحت إسرائيل نحو اليمين تصبح أكثر رفضاً للتعايش بل يقوم المشروع على دولة يهودية خالصة وتنظيفها من الفلسطينيين «نذكر مشروع الوطن البديل الذي يشكل أساساً لم يختفِ من أدبيات حزب الليكود وهو حزب يمين المركز قياساً بالحزب الصاعد «يمينا» الذي يقوده نفتالي بينيت.


بكل هذا يبدو الحديث عن حل الدولتين هو الأكثر منطقية الذي يقع في منتصف الطريق بين الحلم والاستسلام، ولكن هذا يحتاج إلى الكثير من العمل الداخلي ليس فقط إنهاء الانقسام الذي يشكل وصمة في التاريخ الفلسطيني ستطال الجميع بل وأيضا بنية المؤسسة التي لا تليق بالقضية وليست مؤهلة بهذا الشكل لتحمل المسؤولية..!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد