تشير استطلاعات الرأي التي أجريت بعد المناظرة الأولى بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومنافسه جو بايدن، وكذلك المناظرة بين مرشحَيهما لمنصب نائب الرئيس، وبعد أن ألغيت المناظرة الثانية التي كان من المفترض أن تجري في الخامس عشر من الجاري، إلى تفوق المرشح الديمقراطي على منافسه المرشح الجمهوري، بنسبة من رقمين، تبلغ نحو اثني عشر بالمئة، ما يعني صعوبة أن ينجح الرئيس ترامب في إغلاق الفجوة خلال أيام معدودة تفصله عن يوم الاقتراع بعد نحو ثلاثة أسابيع، وليس هناك من حدث مهم بالخصوص سوى المناظرة الثالثة، التي ستجمع المرشحين، هذا إذا لم تلغ كما حدث مع سابقتها.


حقيقة الأمر، أن ظهور وباء « كورونا » الذي ذهب ضحيته نحو 8 ملايين إصابة مع نحو ربع مليون حالة وفاة أميركية، وطريقة معالجة البيت البيض للجائحة، كانا سبباً مباشراً لانخفاض شعبية ترامب، وسبباً غير مباشر، لجهة تراجع الاقتصاد الأميركي جراء ذلك، وهذا ما يفسر أن تفشي الوباء في الولايات المتحدة قد تصدر الحملة الانتخابية، بل وكان أحد المواضيع الرئيسية في المناظرة بين المرشحين.


لكن حقيقة أن الطبيعة الشخصية للرئيس ترامب، المتفردة والفجة، والتي أظهرت الكثير من الازدراء حتى بالجمهوريين، كانت أيضاً سبباً فيما يلاحظ من عدم انخراط للحزب الجمهوري في المعركة الانتخابية، كما هو حال الحزب المنافس، بل إن كثيراً من مرشحي الحزب الجمهوري إن كان لمنصب حكام الولايات، أو لمقاعد تمثيلها النيابي في الكونغرس، وعدداً من السياسيين الجمهوريين، بدؤوا بتوقع خسارة مرشحهم بشكل مدوٍ، أو بفارق كبير، وبعضهم وجّه انتقادات للرئيس، إن كان على خلفية سياسته في مواجهة جائحة «كورونا»، أو لتفرده في إدارة البلاد.


والرئيس المرشح نفسه، كان ضحية الوباء الذي ما زال يستخف به، بحيث أصابه شخصياً، وإن كان حاول أن يوظف إصابته بالإعلان عن المصل المعالج، خاصة بعد أن خرج معافى في ظرف ثلاثة أيام فقط، لكن ما لفت الانتباه هو أنه في الوقت الذي خرج فيه من المستشفى يشيد بنائبه مايك بنس في مناظرته مع كامالا هاريس، كان يقوم بتوبيخ وزير الخارجية مايك بومبيو، حاثاً إياه على عرض البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، في محاولة واضحة لبعث الروح في حملته الانتخابية المتعثرة.


واضح أن كشف بومبيو عن ذلك البريد، في هذا التوقيت بالذات، يعتبر عملاً غير أخلاقي، لكنه يؤكد بنفس الوقت استعداد ترامب لفعل أي شيء، ليبقى في البيت الأبيض، وهذا يذّكر بما اعتاد على فعله بنيامين نتنياهو من سرد كل الأكاذيب واتخاذ كل المواقف مهما بلغت من خسة ونذالة، ليبقى رئيساً لوزراء إسرائيل.


في حقيقة الأمر، رغم أن النظام السياسي الأميركي هو نظام حكم رئاسي، والنظام الإسرائيلي نظام حكم برلماني، إلا أن مؤسسات الدولة الأميركية أكثر عراقة، ومنها بالطبع المؤسسات الحزبية، ونعني مؤسسات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ورغم أن الرئيس الأميركي ينتخب من الشعب مباشرة، بما يجعله غير خاضع للأغلبية البرلمانية حتى لو كانت من الحزب المنافس، فيما رئيس الحكومة الإسرائيلية أقل قوة، من حيث هو يمثل الأغلبية البرلمانية، التي يمكنها أن تستبدله بأي وقت، وتبقى هي في موقع الحكم، لكن «حداثة» دولة إسرائيل والعديد من الأسباب الأخرى، جعلت من مكوث رئيس حكومة شخصياً لمدة طويلة، أمراً يحدث على حساب مكانة وقوة الحزب، وربما حدث هذا مع اليسار الذي أسس الدولة، فكرس شخصية ديفيد بن غوريون أكثر من الحزب نفسه، فيما لم يحدث هذا مع خصمه «حيروت» الذي أسسه مناحيم بيغن، ولم يجلس على مقعد رئيس الحكومة طويلاً، فتكرس اليمين أكثر من قائده، على أي حال، لعل أحد أهم أسباب بقاء نتنياهو في الحكم طويلاً، ما له علاقة أولاً بنظام الحكم في إسرائيل الذي لا يحدد مدة معينة لرئيس الحكومة، لأنه لا ينتخب بشخصه، وثانياً بسبب تلاشي البديل عن اليمين منذ عقود، وبالتحديد اليمين الذي يقوده الليكود.


فكل محاولات أرئيل شارون بشخصيته القوية لخلق حزب كاديما، تلاشت بعد أيهود أولمرت وتسيبي ليفني، ولم تنجح بعد ذلك محاولات خلق المعسكر الصهيوني، ولا «أزرق-أبيض» وما بينهما في خلق ند ينافس اليمين، إلا اليمين نفسه، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن الليكود يخسر مقاعده لصالح «يمينا» نفتالي بينيت، هذا الذي كاد ألا يتجاوز نسبة الحسم في انتخابات سابقة، بعد أن خرج من البيت اليهودي.


استطلاعات الرأي الأخيرة في إسرائيل، رغم أنها تشير إلى تقاسم قوة اليمين السياسي بين «ليكود» و»يمينا»، واستمرار تقاسم الحريديم بين شاس ويهوديت هتوارة، فإن اليمين دون «إسرائيل بيتنا» أفيغدور ليبرمان يحقق أغلبية مطلقة مقابل القوى الأخرى، على عكس ما يحدث في استطلاعات الرأي الأميركية، ما يعني أن ترامب لا يواجه جو بايدن فقط، بل يواجه بحزب لا يقاتل بقوة لأجل بقائه حزباً نداً قوياً يقاتل بقوة مع مرشحه لانتخابات الرئاسة.


الأمر مهم للغاية لكلا الرجلين، ترامب ونتنياهو، لأنهما ربطا مصيريهما معاً، فمن الواضح أن خسارة أحدهما ستؤثر سلباً على بقاء الآخر، وبعد أن اهتز مقعد الحكم تحت أرجل نتنياهو، بات الأمر أسوأ فيما يخص صديقه الأميركي.


وبعد أن حرص ترامب على بقاء نتنياهو في الحكم، من خلال دعمه بالهدايا السياسية خلال عامي 2019-2020، ونجح في آخر جولة انتخابية بفرض شراكته مع بيني غانتس ، على صفقته، وبعد أن رد نتنياهو الدين بإقامة احتفال التطبيع في البيت الأبيض، وحتى بعد أن حاول ترامب تجاوز الفجوة بالمناظرة وتوظيف إصابته بـ»كوفيد-19» بإعلان اللقاح المعالج للمرض، ازدادت الفجوة التي تفصله عن بايدن، لدرجة أن الحديث الآن يدور عما يمكن أن يرتكبه الرجل من حماقة للبقاء في البيت الأبيض، من مثيل فضيحة سلفه ريتشارد نيكسون في ووترغيت، أو حتى مما يمكن أن يدفع البلاد إليه من حرب أهلية مثلاً، برفض تسليم السلطة في حال إعلان خسارته.


هذا ما يشغل بال الكثير من الأميركيين حالياً، بما يؤكد أن حزب الرجل المستبد، عليه أن يتخذ قراراً حاسماً لحماية البلاد والنظام الديمقراطي، فهل ينجح الحزب الجمهوري في لجم جنوح رئيسه لتجاوز التقليد الديمقراطي، أم أنه سيظهر على شاكلة الليكود، خاضعاً لرئيس لا يتورع عن الإطاحة بالقانون والديمقراطية من أجل البقاء في سدة الحكم، كما يفعل ملوك ورؤساء الدول المحكومة بأنظمة الاستبداد؟!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد