بالعودة إلى النقاش في الأسبوع القادم، فإن الانتخابات كممارسة لا بد أن تكون أفضل طريقة يعرفها البشر حتى يترجموا توقهم للحياة الديمقراطية.
من المؤكد أنه لا توجد ترجمة أخرى مباشرة لتعريف الديمقراطية حيث يحكم الجميع الجميع إلا من خلال تنظيم انتخابات يختار فيها المواطنون من يمثلهم.


وطبعاً ليست الانتخابات بلا عيوب. ولنلاحظ أن ثمة خلطا كبيرا وتماهيا أكبر بين الديمقراطية كطريقة حكم والانتخابات كوسيلة لتداول السلطة، وهو خلط ربما يكشف عن وحدانية الطريق الانتخابية في ترجمة مفهوم الديمقراطية.


ولما كان ثمة نظم سياسية كبيرة تنزع نحو الكثير من الترجمات المختلفة للعقد الاجتماعي الذي أشرنا له في المقال السابق بوصفه أكبر تفاهم ضمني توصل له الأفراد لترتيب شؤون الحياة المشتركة لهم، فإن الممارسة الديمقراطية باتت، ربما ضمن اتفاق غير معلن ولكن يحوز أغلبية متوقعة، هي الطريقة الفضلى في التعبير عن جوهر العقد الاجتماعي الذي يرضى فيه الجميع التنازل عن إرادتهم طواعية في سبيل حياة أكثر استقراراً.


وهذه الإرادة الجماعية التي يتم التنازل عنها تجد تعبيراتها في إرادة جماعية أخرى تتم مأسستها عبر نظام سياسي يكون تداول السلطة جوهره.
وربما أن تاريخ نشوء المجتمعات في العالم لم يشهد خلطة سحرية واحدة تقول لنا كيف ظهرت الحاجة للديمقراطية، إذ إن خبرات الشعوب المختلفة دللت على مسارات متنوعة لكنها أفضت في النهاية إلى الحكمة غير المتوقعة في مراحل تاريخية من أن الانتخابات هي السبيل الوحيد الذي يمكن له أن يرضي الجميع.


وجوهر ذلك أن ديمومة العملية الانتخابية هي جوهر مفهوم التداول. فمن يخسر متيقن بأن ثمة فرصة أخرى ستعطى له وسيستطيع المنافسة وقتها بحرية كاملة ولن يتم الانتقاص من أي من حقوقه وأنه إن قدم تصورات أفضل نحو ما سيقوم به في حال وصل للحكم فإنه سينجح بكل تأكيد في الفوز في صناديق الاقتراع.


فقط هذا اليقين هو ما يجعله يقبل بنتائج الانتخابات حتى لو لم تكن لصالحه، فهي في المرة القادمة قد تكون لصالحه وبالتالي فإن خصمه سيقبل بها طواعية، ويدافع عن نتائجها.


وذات الأمر ينسحب على من يفوز في العملية الانتخابية حيث اليقين بأن كل دورة انتخابية وحدها من تقرر نتائجها، وأن لكل عملية انتخابية نتائج مختلفة ولا توجد ضمانة أن يفوز فيها من فاز في المرة القادمة، كل هذا يجعل مهمة الفائز منذ اللحظة الأولى أن يعمل على الفوز في المرة القادمة لأن الانتخابات التي لا يمكن الهروب منها لا يمكن لها أن تضمن له أن ينجح، فهو غير قادر على وقفها وهو غير قادر على التلاعب بها. وكلمة السر في كل ذلك هي ديمومة العملية الانتخابية من أن الانتخابات هي اللعبة الوحيدة في الحي وأن سكان الحي لا يحتكمون لأي سلاح آخر غير سلاح إرادتهم الحرة التي يعبرون عنها في صندوق الانتخابات.


هذا هو جوهر الفهم الذي يجعل الانتخابات هي أفضل الطرق للتعبير عن الديمقراطية والتي هي أفضل ما نعرف على الأقل من خبراتنا في الحياة من نظم سياسية أو طرق ينظم وفقها البشر حياتهم.


فالفرد الحر لا يستطيع أن يعبر عن إرادته إلا عبر عملية حرة، وهذه العملية حتى تكتمل شروط حريتها يجب ألا تكون مرهونة بغير إرادة الأفراد الأحرار الذين يشكلون مجتمع المواطنين. وربما واحدة من الكلمات المفتاحية في العملية الديمقراطية هي الوصول إلى مجتمع المواطنين.


أي المجتمع الذي يتكون من مجموع الإرادة الحرة للأفراد الذين هم بمجموعهم يشكلون إرادة جماعية هي في المحصلة ما يتم التعبير عنه عبر ومن خلال مؤسسات النظام الديمقراطي. لذا فإن تمسك المواطنين بالعملية الانتخابية وديمومتها غير مرتبط بغير رغبتهم في أن يدافعوا عن حريتهم في الاختيار.


ومن نتائج ذلك أنه بالقدر الذي يكون فيه الترشح للموقع العام ينبع من إرادة حرة فإن المشاركة في العملية الانتخابية أيضاً تنبع من إرادة حرة.

فالمواطن لا يذهب مكرهاً لصندوق الاقتراع. وربما شهدت بعض التجارب عمليات الزام في بعض الخبرات الضعيفة، لكن أساس العملية الانتخابية هو ممارسة مباشرة للإرادة الحرة غير المكرهة على شيء حتى على القيام بحقها، فلا يمكن إكراه الفرد على ممارسة حقوقه، كما لا يمكن إكراهه على تحمل المسؤولية.


من هنا فإن نسبة الاقتراع في المجتمعات المستقرة ديمقراطياً قد تشهد انخفاضاً حاداً، وليس مرد هذا ضعف العملية الديمقراطية أو قلة اهتمام المواطنين الأفراد بها أو عدم إيمانهم بجدواها، بل ربما وبفهم معاكس فإن هذا الانخفاض دليل على عمق وتجذر الإيمان بالعملية الديمقراطية، فالمواطن، بصرف النظر أين يقف في التوجهات السياسية، على يقين بأن المواطنين الآخرين قادرون على اتخاذ القرارات الصائبة تجاه المجتمع.

لذا فإنه يبدو مشبعاً ومقتنعاً بإرادته الني يتنازل عنها بطريقة حرة أيضاً حتى يقرر نيابة عنها الآخرون حين يقومون بخياراتهم الانتخابية. وفيما قد تشهد بعض التجمعات حديثة العهد في الانتخابات نسبة مشاركة مرتفعة، وربما يتم التباهي بهذه النسبة بوصفها مؤشرا ديمقراطيا صحيا، وهي ربما تعكس القلق والخوف أكثر من اليقين والأمان، فإن المجتمعات الأكثر استقراراً ديمقراطياً، تنزع نحو مشاركات أقل في عمليات التصويت. وبالطبع هذا ليس قانوناً حتمياً في الحياة، إذ إن اللحظات التاريخية وحدها من تقرر نسبة التصويت، إذ إن بعض اللحظات الحرجة في تاريخ الشعوب تفرض مشاركات واسعة من أجل التقرير المصيري في بعض النتائج.


المؤكد، أن كل هذه الممارسة، التي تعني أن يدلي الفرد بوصفه مواطناً صالحاً وحراً بصوته في الانتخابات من أجل أن يختار من يمثله هي أفضل من نعرف من ترجمات واقعية لفكرة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد