لم تذهب خمس دول عربية للتطبيع مع إسرائيل بعد الاتفاق الذي عقدته دولتيا الإمارات والبحرين كما بشر الرئيس الأميركي أثناء توقيع الاتفاق في الثالث عشر من أيلول الماضي، وثبت أن دونالد ترامب يقول كلاماً عشوائياً لا صلة له بالواقع، ويطلق تصريحات كما يشاء تماماً على نمط تصريح الكلور والديتول وها هو الآن مريض بالـ» كورونا » وبالقطع لن يشرب الكلور ولن يقبل بأن يحقنوه بالديتول.
فالعلاقات بين الدول والشعوب أكثر تعقيداً من سطحية رئيس عابر سيكون الأميركيون محظوظين إن غادر البيت الأبيض في انتخابات مطلع الشهر القادم، والفلسطينيون يعدون الأيام لرحيله، فهذا الرجل وجه لهم عدة ضربات موجعة في ولايته ليس أبرزها الاستيطان و القدس بل تمكن من إزاحة حل الدولتين عن جدول الأعمال الأميركي.
وللفلسطينيين ثأر مع هذا الرجل، لذا كان الموقف الفلسطيني حاداً تجاه الدول التي حاولت دعمه باتفاق التطبيع على اعتبار أنها تدعم الخصم الرئيس للفلسطينيين، وفي عرف العلاقات هذا أمر طبيعي على نمط «صديق عدوي عدوي».
لا شك بأن تصريحات الرئيس الأميركي آنذاك بأن دولاً عربية ستلتحق بالقاطرة لم تكن أكثر من جملة بعيدة عن واقع المنطقة الحقيقي، وهو أيضاً ما حاول نتنياهو الاشارة إليه بل وذهب أبعد من ذلك مستخدماً مناخات التطبيع كدليل على «خطأ الفلسطينيين في مطالبتهم بحقوقهم الوطنية».
ولا شك بأن تلك التصريحات تم أخذها في البداية على محمل الجد لأن من يعلن ذلك هو الرئيس الأميركي أو رأس الدولة الأميركية الذي يعتمد على أسطول من الدبلوماسية وأدوات الضغط وأجهزة أمن واستخبارات وهو دوماً يعني ما يقول، ولكن ثبت أنه لا يعني وأن الأمر لم يكن أكثر من إشاعة دعائية أو صناعة مناخات كاذبة.
موسم التطبيع انتهى أو توقف حتى اللحظة عند دولتين هامشيتين وبدأت مناخات الحملة تتلاشى ولم تتمكن الدول الموقعة من ترويج اتفاقها وبقيت وحيدة ولم تجارِها دول أخرى، بل إن عملية الضغط الأميركية وعمليات جس النبض اصطدمت بتعقيدات العلاقة مع إسرائيل ورأي عام لا يمكن تجاوزه بتلك السهولة كما قال السفير السوداني في واشنطن نور الدين الساتي الأسبوع الماضي من أن «رفع العلم الإسرائيلي في الخرطوم يحتاج قبولاً شعبياً وفي القيادة وهذا لم يحن وقته حتى الآن.»
حاولت الولايات المتحدة فعلاً مع السودان والسعودية وسلطنة عمان والمغرب وربما قطر التي تقيم علاقات مسبقة مع إسرائيل منذ تسعينيات القرن الماضي منذ انقلاب الأمير الأب على الأمير الجد ولكنها لم تجرؤ على الذهاب إلى مغامرة إعلان هذه العلاقات أو تطبيعها، لكن ما عزز الاعتقاد بالتحاق دول عربية بالمركب هو بعض الإشارات التي صدرت عن السودان والسعودية حين فتحت الدولتان أجواءهما للطيران الإسرائيلي، ولكن تلك مقدمة يبدو أنها لم تكن كافية لاستكمال علاقات بل وربما أيضاً كان لردود الفعل على اتفاق أيلول الماضي ما يجعل الدول الأخرى تفكر أكثر بجدوى التقارب مع إسرائيل أمام خسارات أكبر.
السودان الذي أزاح عمر البشير مازال الرأي العام فيه بعيداً عن استيعاب علاقات مع إسرائيل وحتى القيادة نفسها وإن كانت هناك رغبة لدى رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان ، لكنّ هناك رفضا من رئيس الحكومة عبد الله حمدوك بالإضافة لتعقيدات أخرى تتعلق برفع الحصار عن السودان والتعويضات التي تقارب 335 مليون دولار.
فالسودان يطالب برفع الحصار أولاً وقبل الحديث عن علاقات فيما يخشى الكونغرس والعائلات المطالبة بالتعويض إثر عمليات بن لادن من أن رفع الحصار سيخفف الضغط عن السودان وهذا الأمر أبلغه البرهان لمحاوريه الأميركيين في زيارته الأخيرة للإمارات.
أما المغرب فهي ليست مستعجلة ولا تعتبر الموضوع أولوية بالنسبة لها، وأغلب الظن أنها ليست معنية بفوز ترامب وليس لديها أزمة بانتخاب بايدن ولكن خسارتها ستكون كبيرة في خسارتها للرأي العام هناك وفقدانها لرئاسة لجنة القدس مقابل ماذا سيجنيه المغرب من اتفاق تطبيع.
أما السعودية التي حسم الملك سلمان موقفها فالتقارب مع إسرائيل ربما سيعتبر المغامرة الأكبر في تاريخها فهي تواجه خصمين كبيرين إيران من جهة وتركيا من جهة أخرى ينافسانها على الحضور والزعامة الاسلامية للمنطقة، إيران كدولة زعيمة للعالم الشيعي وتركيا التي تحاول أن تكون بديلاً لقيادة العالم السني مدعومة من قطر والإخوان المسلمين. ففي أي تقارب مع إسرائيل ستفقد السعودية آخر ممكنات قوتها وهي زعامة العالم الإسلامي وتلك أقرب للمقامرة بكل الرصيد بل تعني انتحاراً معنوياً، وهذا أمر لن تفعله دولة مثل السعودية.
تلك ربما بشائر للفلسطينيين الذين أصيبوا بالإحباط الشهر الماضي أثناء الحملة الكاسحة التي أدارها نتنياهو وترامب وكأن الدول تتساقط واحدة تلو الأخرى، وثبت أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم بل هناك إقليم وحسابات ورأي عام في صالحهم.
ولكن السؤال الملح دوماً كيف يمكن أن يستثمر الفلسطينيون تلك الأوراق التي تثبت أنها تشكل ميزان القوى الأبرز في علاقات المنطقة وعوامل تحريكها أو فرملتها؟
الجهد السياسي الفلسطيني خلال السنوات الماضية لم يكن بمستوى التخوفات، بل انشغل الفلسطينيون بمصارعة أنفسهم تاركين إسرائيل تعبث في الساحة الدولية حتى وصلت ساحتهم الخلفية داخل الدول العربية وتجر دولتين باتجاهها، وتلك ليست مصادفة بعد وهن المؤسسات الفلسطينية وأذرع منظمة التحرير التي تآكلت وكفت عن العمل باتحاداتها ومن تبقى منها يعيش بطالة سياسية وصراعاً داخلياً أو جزءا من الصراعات.
آن الأوان لإعادة الاعتبار للمؤسسة وبنائها بما تتطلبه اللحظة التاريخية، فالقضية ما زالت حية ولا يمكن تطويع التاريخ بجرة قلم، ولكن أيضاً كثير من الأمم ضاعت قضاياها بين صراعاتها وسوء إدارتها.
فإذا فشل الفلسطينيون في استثمار كل الأوراق لن تنتظر الدول العربية طويلاً، الدول تتأرجح رغم تماسك مواقف الشعوب، والأداء الفلسطيني هو ما سيحدد بأي اتجاه تميل...!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية