في مقال نشر في صحيفة «هآرتس» أول من أمس، كشف ضابط الموساد السابق يوسي بن آري عن معلومات كانت لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إبان الانتفاضة الثانية تم حجبها عن مستوى صانعي القرار السياسي والأمني، وهذه المعلومات تقول إن الرئيس الراحل ياسر عرفات لم يبادر إلى استخدام السلاح وأنه كان معنياً بنجاح جهود الرئيس الأميركي بيل كلنتون وتحقيق التسوية السياسية. وهذه المعلومات صدرت في تقرير أعده بن آري في عام 2000 وأن نفس الموقف كان لدى رئيس جهاز « الشاباك» آفي ديختر في ذلك الوقت ونائبه يوفال ديسكن، ومسؤول القسم الفلسطيني في شعبة الاستخبارات افرايم لافي. في حين أن عاموس غلعاد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية كان يحمل موقفاً يتساوق مع الرواية الرسمية وطمس موقف مرؤوسه المسؤول عن الملف الفلسطيني.


قيمة المعلومات التي كشف عنها بن آري تكمن في إظهار حقيقة الكذب والتزوير في الرواية الرسمية الإسرائيلية والمسؤولية عن إضاعة فرصة لتحقيق السلام، وتحميل الرئيس عرفات مسؤولية العنف في الانتفاضة الثانية مع العلم أن إسرائيل استخدمت أقصى أشكال العنف ضد الفلسطينيين منذ اللحظات الأولى لاندلاع الانتفاضة سواء بقتل المتظاهرين في القدس وفي الحرم على وجه الخصوص وفي غزة ولاحقاً في كل مكان في الأراضي الفلسطينية. ونجحت إسرائيل الرسمية في تسويق رسالة سياسية وإعلامية على المستوى الدولي بتحميل عرفات والقيادة الفلسطينية المسؤولية الحصرية عن المواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والعمليات الفلسطينية ضد اهداف إسرائيلية مدنية وعسكرية، بما فيها التفجيرات التي أدت إلى مقتل حوالى ألف إسرائيلي وجرح الآلاف، في مقابل حوالى 4 آلاف شهيد فلسطيني وحوالى 32 ألف جريح، عدا عن آلاف المعتقلين.


في الواقع هذا الكذب والتزوير الإسرائيلي ليس جديداً، فقد بدأ باختلاق رواية تاريخية كاذبة لتاريخ فلسطين قائمة على التزوير المفضوح، ونجحت إلى حد بعيد في ترويجها وإقناع الكثيرين بها على مستوى العالم، لدرجة أن جهات دولية كثيرة تتبنى هذه الرواية على الرغم من أنها تتناقض بشكل جوهري مع القرارات الدولية والرواية التاريخية المثبتة لفلسطين التاريخية وشعب فلسطين على أرض وطنه. ونجحت إسرائيل من خلال التكرار الدائم والمواظب على تصوير الفلسطينيين بأنهم يرفضون كل ما يُطرح عليهم من مبادرات ومقترحات. وفي هذا السياق يمكننا أن نسمع إسرائيليين وأجانب يكررون على مسامعنا في كل مناسبة أننا رفضنا العرض السخي الذي تقدم به رئيس الوزراء إيهود باراك في قمة «كامب ديفيد»، كما رفضنا عرض أيهود أولمرت، مع أن الحقيقة هي غير ذلك، فبعد فشل «كامب ديفيد» تدخل الرئيس الأميركي بيل كلينتون واستمرت المفاوضات في طابا واقتربت من الوصول لاختراق حقيقي، ولكن باراك أوقف المفاوضات وذهب لانتخابات مبكرة. وأولمرت أوقف هو الآخر المفاوضات في لحظات حاسمة رغم التقدم بسبب تقديمه للمحاكمة على تهم الفساد.


لكن التزوير الإسرائيلي المحترف واستخدام الآلة الإعلامية المتطورة والرهيبة التي يملكونها والمدعومة من وسائل أعلام غربية قسم منها يملكه الرأسمال اليهودي الداعم لإسرائيل على الخير والشر، لا يعفينا من الاعتراف بأخطائنا في الانتفاضة الثانية التي نعيش الذكرى العشرين لاندلاعها. وقبل كل شي الخطأ الذي رافق قمة «كامب ديفيد» حيث لم نطرح روايتنا بشكل قوي وواضح لدحض وتفنيد الرواية الإسرائيلية المزورة والكاذبة حول المسؤولية عن فشل القمة. وما كان يهم القيادات الفلسطينية في ذلك الوقت هو الظهور بمظهر البطل الذي رفض عرض باراك وصمد أمام الضغوط.


الخطأ الآخر الأفدح هو مواصلة العمل المسلح بعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول من العام 2001، وكان من المفروض الوقف الفوري لاستخدام السلاح بعد الانقلاب الذي حصل في الموقف الدولي وظهور ما يشبه الإجماع ضد ظاهرة الإرهاب. وكان ينبغي أن نميز أنفسنا وألا نسهل على أعدائنا خلط الأوراق ودمجنا مع منظمات الإرهاب الدولية. هذا عدا عن الخسائر الفادحة التي لحقت بنا بشرياً ومادياً والتي طالت البنية التحتية للسلطة وأعادتنا للوراء سنوات طويلة، ووفرت الذريعة لشارون لبناء جدار الفصل العنصري واجتياح المدن الفلسطينية، وأسست لسيطرة « حماس » وانقلابها في قطاع غزة، ومكنت اليمين الإسرائيلي من الحكم، وقضت على اليسار وعلى فكرة التسوية السياسية في الرأي العام الإسرائيلي. وهذه قضايا مركبة يطول شرحها، ولكن كان لازماً اتخاذ مواقف حاسمة في لحظات مصيرية تطلبت قرارات قاطعة تنبع من المسؤولية التاريخية للقيادة.


هذه المسائل وغيرها تم تناولها بتوسع خلال العشرين سنة الماضية. ولكن يبقى السؤال الجوهري: هل تعلمنا من تجربتنا المريرة والخسائر الفادحة التي لحقت بنا؟ والإجابة الأولية تقول إننا لم نتعلم ولا نزال نرتجل، وأكثر ما يثير القلق هو الاستعداد لعودة الفوضى. وحتى الاتفاق الذي تم بين جميع الفصائل على اعتماد المقاومة الشعبية لم يترجم على الأرض بسبب الفجوة الهائلة بين القيادات والشارع، وعدم قناعة الناس بقدرة القيادات على تحقيق الأهداف المرجوة. وهناك غياب للرؤية واستشراف المستقبل في ظل التعقيدات التي نعيش على مختلف المستويات، بحيث لا تزال رهاناتنا غير واضحة، وخياراتنا متلعثمة برغم الشعارات التي نطلقها ليل نهار بدون أي رصيد. ويا ليتنا بعد عشرين عاماً على الانتفاضة الثانية نُعمل العقل وندرس التجربة ونتدارس واقعنا وكيف ننجو من الكوارث المتلاحقة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد