يحق لنا أن نصاب بالدهشة من خطاب الفصائل المرافق لجولة الحوار الأخيرة التي جرت في إسطنبول، وسبب الدهشة هو الاكتشاف الكبير لأطراف الحوار بأن المصالحة باتت ضرورية، وأن المصلحة الوطنية العليا تتطلب إنهاء الانقسام، وكأن الأمر قبل ذلك لم يكن يستحق، أو لم يكن ضرورياً طيلة سنوات العجاف الوطني، أو كأن الانقسام لم يكن أكثر من كاميرا خفية.


الحوار هذه المرة يتخذ شكلاً أكثر جدية من المرات السابقة، لا من حيث النتائج التي تكررت مرات كثيرة كمتلازمة كانت ترد في كل البيانات وبعد كل الجولات على امتداد سنوات، بل من حيث الدوافع التي دفعت بالأطراف، تحديداً حركة فتح، للذهاب على عجل واختيار إسطنبول بما تحمله من وسائل تحت وطأة ردة الفعل من محورها التاريخي، وتذهب نحو المحور الداعم لمنافسها الداخلي الذي ينازعها على السلطة.


الدوافع هذه المرة كثيرة، تختلط بين المصلحة الوطنية التي كانت هامشية لثلاثة عشر عاماً ماضية، وثبت أنها لم تكن أكثر من محتوى بيان أو تصريح عابر لم يكن يسمن ولا يغني من جوع لحالة الفقر الوطني التي عاشتها القضية، وبين المصلحة الحزبية وحتى الشخصية، وأمام حالة العبث التي اجتاحتها على امتداد السنوات الماضية وحولتها إلى ركام، ولا نعرف هل بقي لعطار السياسة متسع لإصلاح دهر من الخراب أم لا، ولكن بكل الظروف أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً.


ليس خافياً أن التطورات الأخيرة في الإقليم، وذهاب دول عربية نحو التطبيع مع إسرائيل، في حالة تجاوز للمبادرة السعودية التي شكلت في العقدين الأخيرين الحد الأدنى المقبول، واستعداد دول أخرى، كانت الدافع الرئيسي وراء هذا الحوار سواء من حيث المكان الذي انعقد فيه أو من حيث سرعته. فقد ذهبت الأطراف هذه المرة قفزاً وليست متثاقلة كما المرات السابقة، وتمكنت ببساطة شديدة من الوصول إلى حل المعضلة، ففي المحاولة الفاشلة السابقة توقف الأمر عند المرسوم الرئاسي عندما اصطدم بعقدة القدس ، ليكتشفوا أنه يمكن تمثيل القدس بالتعيين إذا ما أراد الإسرائيلي أن يمنع الانتخابات هناك والأغلب أنه لن يقبل.


الدافع الوطني للحوار كان نتاج صدمة الاتفاقيات الأخيرة مع إسرائيل، ليس لأن دولاً عربية وقّعت مع نتنياهو الذي لم يكن يستحق هذا المجد، بل لأن القيادات الفلسطينية اكتشفت أن الوضع الداخلي الفلسطيني الغارق في خلافاته قد قضى على هيبة الفلسطينيين، وكان عاملاً مساعداً في استسهال الذهاب نحو تل أبيب بلا حساب وبهذا الشكل المعلن. فالجميع كان يتابع حجم العلاقات السرية بين دول عربية وإسرائيل، لكن الإعلان عنها بهذا الشكل والآن جعل الفلسطيني يدرك حجم العبث الذي أحدثه بنفسه ليفكر متأخراً في البدء بالترميم.


أما الدوافع الأخرى فلم تكن منفصلة عن تلك التطورات، إذ إن هناك خشية من أن تدفع الأحداث المتلاحقة باتجاه إعادة هيكلة للنظام السياسي الفلسطيني يكون اللاعب الرئيسي فيها العنصر الخارجي وليس الداخلي، أو يعاد تركيبه بما لا يتوافق مع النظام السياسي القائم. وتحت وطأة هذا الشعور والضغط بدأ الحوار.


أما أوروبا، التي لم تعد تفهم كيف يمكن لشعب، عليها أن تستمر في دعمه ولو بالحد الأدنى مالياً، أن يسير فيه الحكم بلا انتخابات وبلا صندوق وبلا رأي للمواطن في مَن يحكمه، فلم تعد قادرة على تحمل استمرار الدعم، ليس فقط أمام شعوبها، بل أيضاً أمام نظمها السياسية التي طالبت مراراً وتكرارا في السنوات الماضية بإجراء انتخابات، وكانت شاهدة على تملصنا وهروبنا من ذلك الاستحقاق، ولكنها في الآونة الأخيرة قالت: كفى.


الناس تتابع بحذر شديد، وبتفاؤل أقل كثيراً من المسؤولين. فقد تكرر هذا المشهد وذلك التفاؤل وتلك التصريحات لكن الواقع بقي كما هو، أو بالأحرى كان ينحدر للأسوأ، فالرغبة بإنهاء الانقسام كبيرة وحلم كان يتباعد مع كل جولة حوار، ما أفقد المصداقية لكل الاجتماعات السابقة، لكن الدوافع هذه المرة تختلف، وهذا ربما ما شكل الجديد في جولة إسطنبول التي يمكن متابعة نتائجها بشكل يختلف عن السابق، ويمكن القول: إن هذه الجولة قطعت شوطاً أبعد من سابقاتها، فهل ستكون النتائج وليدة تلك الدوافع؟


ماذا عن الإسرائيلي الذي نظم وهندس وأشرف، وكان الراعي الأول والأخير لانقسام الحالة الفلسطينية، ولا يمكن الشك بأنه أحد الفواعل الرئيسية في الساحة الفلسطينية، متكئاً على غياب الإرادة الوطنية، ومستخدماً من شاء في الإقليم لإدامة هذا الانقسام، ومع الإدراك الحقيقي لقدرته على منع الخطوة الأخيرة، فتلك عقدة هل يمكن تجاوزها؟ وهنا تتجلى الإرادة الوطنية في اختبارها الأخير أمام الإرادة الإسرائيلية قبل أن ترسب كما كل مرة.


وبالمقابل، إذا ما ذهبنا مع جدية الجولة هذه المرة، فمن زاوية أخرى ينبغي التأني بها، فهل ما يحدث من إعادة هيكلة للنظام السياسي له علاقة بما قاله الرئيس الأميركي: إن الفلسطينيين سيلتحقون بقاطرة خطته للتسوية؟ كل السيناريوهات ينبغي قراءتها بهدوء حتى لا يقع الفلسطيني في حفرة جديدة. المصالحة مهمة وطنية ينبغي الدفع بها. صحيح أن المتحاورين لم يتحدثوا عن المجلس التشريعي كرافعة وطنية إذا ما أريد أن يكون برلمان دولة أم بقاء الوضع الحالي المأزوم، ولكن بكل الظروف الانتخابات مدخل مهم، وبعدها يمكن الحديث عن المسار.. هذا إذا لم يتعرقل الحوار من جديد.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد