رحل الشخصية الوطنية والقومية والتقدمية البارزة يعقوب زيادين الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الأردني، بعد رحلة عمل مضنية، ونضال متواصل، ومواقف صلبة، شكلت معياراً ونموذجاً وبوصلة لكل من اختار استقلال الأردن، وحرية فلسطين، وقضايا قوى التحرر في العالم.
يعقوب زيادين منذ بداياته حينما رأى النور في قرية صغيرة محدودة الإمكانيات، قرب مدينة الكرك جنوب الأردن الفقير، تتقاطع مشاهدها وحضورها ما بين الفلاحة والبداوة، حلم بفلسطين، فكتب عن زيارته لها في الثلاثينات ولداً صغيراً، أجمل وأنقى ما كتب الأردنيون عن فلسطين، وعن القدس و بيت لحم ، ولذلك لم يكن صدفة أن أصبح نائبا في البرلمان الأردني عن القدس وأهلها في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، تجسيداً لحلمه وتطلعاته.
وعلى هذه الخلفية، لم يكن صدفة أن رفع الشيوعيون الأردنيون في مسيرة الجنازة من عمان إلى الكرك علم فلسطين فكان خفاقاً، إلى جانب العلم الأردني وعلم الحزب، وباقات الورد من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ، ومن نايف حواتمة أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومن الحزبين الفلسطينيين: الشعب والشيوعي، وهي دلالات رمزية إلى ما يحمله الفلسطينيون قيادة وفصائل وفعاليات لوطنية الزيادين الأردنية، ولخياراته الشيوعية، لأنها شكلت روافع لنضال الفلسطينيين ودعماً لمشروعهم الوطني الديمقراطي، في مواجهة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي.
وبسبب نجاح يعقوب زيادين عن مقعد القدس في البرلمان الأردني، كنت أداعبه فأقول له سائلاً : لديك ثلاثة مآخذ فأنت شيوعي وكركي ومسيحي، وتنجح في القدس فيرد عليّ قائلاً : تلك هي المواصفات التي جعلت مني نائباً عن القدس، ولا شك أن أهل القدس الذين انحازوا له على حساب أحد أبنائهم إنما يعود ذلك إلى ثلاثة عوامل جوهرية هي:
أولاً : ما يتمتع به أهل فلسطين من وعي وإيمان عميق بالتعددية، بعيداً عن الجهوية والطائفية والانغلاق والتعصب، فكان خيارهم نحو الكركي الشيوعي .
وثانياً : مواصفات يعقوب زيادين نفسه، في أدائه وطريقة تعامله مع مرضاه كطبيب كرس حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم .
وثالثا : المناخ السياسي السائد، فقد انتصر الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية ضد النازية والفاشية وتمدد المعسكر الاشتراكي، وباتت حركة التحرر العربية والعالمية هي صاحبة المبادرة في تحقيق النجاحات ضد الاستعمار، وهو العامل نفسه الذي افتقده أبو خليل، حينما ترشح لمجلس النواب عام 1989، فالانحسار والتراجع والهزيمة هي العناوين الأبرز التي خلفتها الحرب الباردة، وانعكاس ذلك على المعسكر اليساري والقومي في العالم العربي .
جنازة زيادين، كما هي أعلامها ومضامينها كانت جنازة وطنية بامتياز، حيث المشاركون بها من طاهر المصري وعبد السلام المجالي كرئيسي وزراء، وقيادات نقابية، ونواب وأعيان وقادة أحزاب ووجهاء وقادة رأي عام، انتظموا بإدارة ذوق الشيوعيين وحُسن تعاملهم، سواء من قبل أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية الذين كانوا يقدمون الشكر والتقدير للمشاركين باسم رفيقهم الأمين العام منير حمارنة الذي غاب تحت وطأة المرض، ومن قبل الشبيبة الشيوعية، بمعزوفاتهم المؤثرة، وهتافاتهم الواثقة وقائدهم عمر عواد، سواء في عمان أو في قرية السماكية، لجعل مسيرة الجنازة مهيبة، كما يليق بصاحبها .
اختيار السماكية، مسقط رأسه ليدفن هناك، تعبير آخر عن الوفاء والوطنية الكامنة في نفس وروح يعقوب زيادين وخياراته، فقد صنع لقريته مجداً وكرامة وزادها ألقاً أن يدفن في أرضها وسط الزرع الأخضر الجميل، الذي يجب أن يتحول إلى قصر ثقافة لرفع منسوب ثقافة الأردنيين نحو المساواة والديمقراطية والتعددية، ولتكون هناك مدرسة تحمل هذه المفاهيم والقيم، ومتحفاً ومكتبة تحفظ للأردنيين تراثهم الكفاحي، للأجيال اللاحقة.
أهل الكرك، كانوا في استقبال مسيرة الحشد التي رافقت يعقوب زيادين إلى مثواه الأخير، وعلى رأسهم محمد عبد الحميد المعايطة رئيس بلدية الكرك والقيادات الحزبية والنقابية والشعبية، الذين أكرموا الحضور على الطريقة الأردنية الكركية، بدعوة لا مجال للهروب منها أو التهرب عنها، فقد طوقوا القرية ومنعوا السيارات من مغادرتها، وأمسكوا بهم «مخفورين» إلى حيث صيوان التكريم والغداء، لاحتضان أرض الكرك أبرز مناضليها، وتكريماً بمن رافق جثمانه من عمان إلى السماكية.
وأخيراً أتباهى أنني كنت والدكتور زيادين سوية في زنزانتين متجاورتين، في إحدى محطات العمل الكفاحي في السبعينيات، وتعرض خلالها للمرض وطلب من الحراس نقله إلى المستشفى، ولم يتجاوبوا معه، ولخشيتي عليه، بدأت بطرق الباب وافتعال الضجيج والصراخ حتى جاء قائد سرية الحرس، ونقلوه إلى مدينة الحسين الطبية لتلقي العلاج، وصادفت أن شقيقتي الممرضة فيروز هي التي اعتنت به، وسّربت خبر نقله إلى المستشفى إلى الحزب الذي أصدر بياناً حول تعرض أمينه العام لحالة مرضية، ما أربك الحكومة في ذلك الوقت واكتشفوا أن الممرضة المشرفة عليه هي من سربت خبر نقله من السجن إلى المستشفى، وكانت النتيجة أن تعرضت شقيقتي للتوقيف والفصل من العمل، فكان يقول «عائلة الفراعنة اعتنوا بي في الزنزانة وفي المستشفى».
جنازة يعقوب الزيادين بما ضمت من مشاركين، لم تكن مجرد تقدير لشخصه وتاريخه، ولكنها خيار المشاركين وانحيازهم إلى ما كان يُمثل الفقيد من قيم ورغبة نحو عالم حاول الشيوعيون أن يصنعوه وأخلصوا له وضحوا لأجله ولكنهم أخفقوا إلى الآن، وها هي النتائج المدمرة على ما نشاهده، وما يعانيه شعبنا في سورية والعراق واليمن وليبيا وحتى مصر وتونس، من تراجع وخراب ليس فقط للقدرات المادية، بل للإنسان العربي الذي باتت قطاعات واسعة منه أسيرة للصراعات المذهبية والقومية والطائفية المدمرة، ما يدفعنا لأن نقول ونعمل من أجل انتصار قضية الإنسان والوطن بصرف النظر عن الدين أو القومية أو المذهب، فالدين لله والوطن للجميع.
h.faraneh@yahoo.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية