لم تكن الحالة العربية يوماً نموذجية، ولم تتقدم يوماً بشكل إيجابي يجعل استذكار الماضي مصدراً للفخر فيما يتعلق بالقضية الوطنية الفلسطينية. وإذا كان لهذا التعميم أن يستثني بعض المحطات التاريخية التي ارتبطت أكثر بظهور بعض الشخصيات التي نجحت في تطوير حالة عربية أكثر تناغماً مع الفلسطينيين، مثلما فعل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فإن شواهد التاريخ منذ ما قد يسميه البعض «التآمر العربي على ثورة العام 1936»، حتى آخر إعلانات الاستسلام العربي قبل يومين، تغلب في طابعها على لحظات المد العربي. وربما تمتلأ كتب التاريخ بالكثير من الشواهد على كيف كان التخاذل العربي جزءاً أساسياً من ضياع فلسطين، من الأسلحة الفاسدة، إلى الاصطدام الدموي مع الفلسطينيين، إلى التحالف مع الاحتلال ضدهم كما يحدث الآن.
وربما لا يمكن فهم المصطلح الفلسطيني الشهير «القرار الوطني المستقل» دون العودة إلى المحاولات العربية للهيمنة على القرار الفلسطيني، ومصادرة حق الفلسطينيين في تمثيل أنفسهم، وفي قيادة مسيرتهم الخاصة. وربما القداسة والإصرار اللذين يحيط بهما الفلسطينيون هذا الشعار تكشف حجم التضحيات والنضال الكبير الذي خاضوه من أجل تحقيقه. لقد كانت رغبة العرب دائماً، خاصة القوى الكبرى (وهذا مصطلح مجازي بالطبع إذ لا قوى كبرى في المنطقة العربية)، هي الهيمنة على القرار الفلسطيني والتكلم باسم الفلسطينيين بغية أن «يكبروا» ويحققوا مصالح غير تلك التي يجب إنجازها باستعادة الحقوق الفلسطينية. كانت المتاجرة بالقضية الفلسطينية عنوان الكثير من الأنظمة، وربما لا يمكن فهم سياق العلاقة الفلسطينية مع العرب دون استحضار هذه «المتاجرة» التي دفع الفلسطينيون ثمنها غالياً، وغالباً ما كلفتهم دماء وشهداء وآلاماً. كانت القضية الفلسطينية هي حصان طروادة الذي يستخدم في تمرير التوجهات القمعية لدي الأنظمة، وكانت فلسطين الذبيحة لا تحضر إلا على صعيد البلاغة والخطابة وتبرير كل الكبائر التي يتم ارتكابها من أجل الحفاظ على سدة الحكم.
يرتبط بهذا الشعار أيضاً شعار ومبدأ من مبادئ الثورة الفلسطينية، والمتمثل في أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. لقد حرم الفلسطينيون من تمثيل أنفسهم حتى تم إنشاء منظمة التحرير. كان الشقيري يقول «ذهبت إلى الفلسطينيين ممثلاً عن جامعة الدول العربية وعدت إلى الجامعة ممثلاً للفلسطينيين»، في إشارة إلى المقاصد الأساسية للعرب من وراء إنشاء منظمة التحرير. وحتى اللحظة لم يتخل بعض العرب عن محاولاتهم السيطرة على فكرة التمثيل الفلسطيني لأنهم - وهذا يرتبط بالسابق - ما زالوا يريدون أن يسرقوا القرار الفلسطيني وأن يواصلوا المتاجرة بالقضية الفلسطينية لكسب المزيد من الشرعية المفقودة أصلاً.
وتاريخ العلاقة العربية مع الفلسطينيين تاريخ حافل ومليء بالخيبات والنكسات. فجميع نكبات ونكسات الشعب الفلسطيني تمت بسبب سوء إدارة العرب للصراع في الوقت الذي صادروا فيه دور هذا الشعب. وفقط في اللحظة التي أخذ المقاتل الفلسطيني زمام المبادرة وقاد عمله الفدائي بنفسه، نجح في إيقاع أول هزيمة بالجيش الإسرائيلي في التاريخ خلال معركة الكرامة. وقت انطلقت الثورة الفلسطينية وحمل الفدائي الأول شعار الكفاح، نجح الفلسطينيون في تشكيل تهديد حقيقي للمشروع الاستعماري الذي أراد أن يبتلع المنطقة العربية. وبذلك تم وضع حد للمشروع التوسعي الذي لم تكن فلسطين إلا بوابته.
ربما ليس هذا المفاجئ، فهذا معروف. وربما أن جلد الذات لا يعفي من قراءة الماضي بطريقة جيدة. فبعض الأنظمة العربية رغم تاريخها الطويل في العلاقة الدافئة مع الاحتلال إرضاءً للسادة في واشنطن، فإنهم يثبتون في كل مرة أن القصد ليس العلاقة مع إسرائيل فهذه موجودة من قبل، ولكن القصد التآمر على الفلسطينيين وتحويل صمودهم إلى معركة دونكوشتية. الأساس أن هناك من يريد أن يكسر الإرادة الفلسطينية من خلال الالتفاف على الموقف الفلسطيني.
لقد أذهل الثبات الفلسطيني الكثير من الأقارب كما كل الأعداء؛ بأن هذا الفلسطيني الوحيد القابع في بلاده المحتلة لا يملك نفطاً ولا غازاً ولا ذهباً، وليس لديه شيء إلا كرامته وكبرياؤه، استطاع أن يهزم إرادة راعي البقر وشرطي الحانة، واستطاع أن يقول: إن الحق يمكن أن ينتصر على كل أشكال الظلم، وإنه لا يمكن ابتزاز الكرامة. هذا ما أغاظ إخوة يوسف. لم يكونوا ليتخيلوا أن هذا الفلسطيني يستطيع أن يهزم أميركا. كان يجب أن نستسلم ونرفع الأيدي ونقول لترامب: «حقك علينا»، ونركع حتى لا نتفوق عليهم وحتى لا نكشف عورتهم. هذا ما كان يجب أن يحدث. لكنه لم يحدث. لذا فإن الحل الخياني وحده من يقدم مهرباً لواشنطن كما لتل أبيب. تذكروا كلنا نعرف أنهم يطبعون. ألم يكن الوزراء الإسرائيليون يذهبون علانية إلى بعض عواصم الخليج ويلتقطون الصور في المساجد؟ ألم يكن السلام المسمى «الأمل» الذي يردده الجنود وهم يقصفون غزة وبيروت يعزف في تلك العواصم؟ لماذا فوجئنا إذا؟
ببساطة لأن «الذئب أرحم من إخوتي»، كما قال درويش. وهم للأسف كذلك. كان يمكن لهم تركنا واقفين نتحمل آلامنا وحدنا، نعاني وحدنا، حتى لو خارت قوانا وسحقتنا قوة العدو، كان يمكن لهم أن يشاهدونا دون أن يتدخلوا ويسعفوا جراحنا النازفة وقتها أو أن يلفوا روحنا المزهوقة في كفن من حرير العروبة، وكان يمكن لهم أن يواصلوا تشجيع الدبابة وهي تهدم بيوتنا علينا، وكان يمكن لهم أن يهتفوا بالعبرية كل التحيات للجندي وهو يقنص الطفل ليمنعه من دخول الحرم الإبراهيمي، وكان يمكن لهم أن يتخيلوا قبلات المجندة وهي تدك سفن الصيادين في غزة، وكان يمكن لهم أن يقولوا للجنرال وهم يمسحون عن نجمة داود الغبار الذي علق بها وهو يدوس رأس الشيخ في تلال نابلس ألا يؤاخذهم لأنهم اضطروا أن يقولوا كذباً: إنهم إخوتنا. كان يمكن لهم أن يتركونا في الجب لا أن يأتوا بالذئب ويرموه معنا حتى يتأكدوا أنه سيأكلنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد