وأخيراً، بعد سنوات طويلة من الانتظار، تمكّن الأمناء العامون من عقد اجتماع عبر السوشيال ميديا أو ما يطلق عليه العالم الافتراضي. تسع سنوات وأربعة أشهر بالتمام مرت منذ اتفاق الفصائل في القاهرة على عقد هذا الاجتماع وبسرعة السلحفاة. كان الأمر يسير كما كل شيء في حياتنا لشعب وقته من دم وليس من ذهب، تسع سنوات وأكثر مرت حتى ينجح هذا اللقاء بالشكل الذي خرج فيه.
كم من الوقت نحتاج حتى يكون اللقاء طبيعياً؟ أخشى أننا نحتاج لنفس المسافة التي قطعتها سلحفاة وحدتنا بكامل تلكئها وكساحها لنتفق على البحث في الأزمة وتشكيل لجان. وهي ظاهرة اعتادت عليها الساحة الفلسطينية دون أن تكمل أي واحدة عملها أو تقدم نتائج كما التقليد الفلسطيني الذي اعتادت عليه دون أن يسأل أحد ما الذي يحدث، أو لأن الجميع كف عن السؤال وسط حالة اللامبالاة التي أصبحت السمة السائدة في عصر السياسة التي أصابتها البطالة.
أكثر من تسع سنوات مرت منذ اتفاق القاهرة، كان يمكن أن يعقد اللقاء آنذاك وكان يمكن أن تُجرى بعده الانتخابات مرتين، وأن يجري تغيير النظام السياسي مرتين، وأن يأخذ المواطن حقه البسيط باختيار ممثليه مرتين. تسع سنوات كانت كفيلة بأن تعقد مئات اللقاءات عبر العالم الواقعي وجهاً لوجه وليس في الفضاء الأزرق.
من تابع كلمات القادة في الاجتماع الافتراضي يحق له أن يتفاءل وأن يتشاءم، أو كما قال الكاتب المرحوم أميل حبيبي مخترع مصطلح «يتشاءل». لكن كل من استمع لكل خطابات السنوات الماضية، والتي تشابهت مع خطابات الأمناء في الاجتماع غير التاريخي، يصبح أقرب للتشاؤم؛ لأن التكرار والثبات في مربع الانقسام كان الحقيقة الوحيدة التي بقيت شاهدة على واقع لم يعرف غير التشظي والتفتت، فما قيل في هذا الاجتماع قد تكرر كثيراً في أزمنة كثيرة ولكنه لم يصل إلى نهايته، بل تعمق الانقسام أكثر.
ماذا يعني تشكيل لجان بعد كل هذه الحوارات وكل تلك الاتفاقيات؟ ماذا يعني أن الفصائل ستدرس كيف يمكن أن تعيد بناء النظام السياسي المفتت؟ ماذا يعني بعد أن وصلنا إلى الاتفاق على الانتخابات وشكلها وآلية إجرائها - وهي السبيل الوحيد أو القانوني والمنطقي لإنهاء الانقسام - أن نعود لنشكل لجاناً لندرس كيف يمكن أن ينتهي الانقسام أو كيف تُبنى الأنظمة السياسية؟ وهل يمكن لمواطن عاش كل التجربة أن يثق بهذا المستوى من الأداء الذي عجز عن عقد اجتماع لأكثر من تسع سنوات؟
في كل مرة نتحدث فيها عن إنهاء الانقسام نكتشف أننا نبتعد أكثر، وفي كل مرة يستمع الناس إلى تلك الكلمات المتفائلة يكتشفون أن الأمر على الأرض يغرق أكثر في التشظي. ويبدو أن كلمات الوحدة تزيد من عمق التباعد، والنتيجة على الأرض مزيد من التراجع، ومزيد من الفقر والجوع، ومزيد من التراجع الوطني، ومزيد من تآكل الهيبة الوطنية والقوة التي كان يملكها الفلسطيني قبل أن ينكشف في الصراع على السلطة.
هل ستفاجئنا الفصائل هذه المرة؟ المقربون منها - من المثقفين الذين ينتمون لها - يحاولون أن يقولوا كما قيادتهم أو يعزفوا على نفس اللحن، ولكن الحقيقة التي تصفعنا يومياً أكثر سطوعاً من كلمات يتم إلقاؤها أو كتابتها. فما هو ماثل أمامنا مثير للإحباط؛ لأن ثلاثة عشر عاماً من الانقسام والانفصال والتشكيل الموازي كانت الحاضر الوحيد في تاريخنا الذي لم يحمل غير الخيبات منذ تلك الفترة. كيف يرفع فلسطيني السلاح في وجه فلسطيني من أجل السلطة؟ كيف تم طرد السلطة من غزة بكل هذه البساطة وبكل تلك الاحتفالات التي صاحبتها عندما انتصرنا على ذاتنا أو بالأحرى حين هزمنا ذاتنا كما قال شاعرنا الكبير: إنه في حزيران حين لم نجد من يهزمنا هزمنا ذاتنا.
ليس هناك كثير من الأمل، حتى الخطابات - لمن يُدقق - كانت تقدم برامج متباعدة، ولكن المسألة ليست في البرامج أو هكذا قالت التجربة. فنحن جزء من عالم عربي لا تعني له البرامج كثيراً بقدر ما يعني الأمر الوصول للسلطة والتمسك بها، فالتجربة تقول: إن الفصائل يمكن أن تغير برامجها دون أن يرف لها جفن، ودون أن تفكر بالشعارات التي قالتها قبل عام أو قبل أشهر حتى، لكن المهم هو الحفاظ على الحكم والسلطة.
إنهاء الانقسام يعني الشراكة، وتلك التي ثبتت أنها مستحيلة الوجود في العقل العربي. فمن يلاحظ العقل الإقصائي الذي لا يقبل الآخر، ومن يشعر بحجم التفرد وقمع الآخر، يدرك أن ثقافة الحدود الدنيا للشراكة لم تتبلور بعد، فنحن لسنا استثناء في الثقافة العربية، بل إن بدائية تجربتنا السياسية وفقرها تجعلنا في آخر الطابور الذي شهدنا تجسيده خلال سنوات الصراع العربي على امتداد عقد مضى، فكان الأمر كذلك لأننا من افتتح حفلة الصراع على الحكم، فقبل أن يبدأ ربيع العرب كان خريفنا يكتب الصفحة الأولى في تاريخ العرب الحديث.
كم تفاءلنا إلى درجة الملل، كنا نأخذ الخطابات سابقاً بجدية عالية، ثم بدأت المسألة بالفتور، ثم تحولت إلى لامبالاة، ثم إلى حالة من عدم المصداقية التي يتعاطاها الناس على السوشيال ميديا بعد تصريح لأي مسؤول. فالتجربة السابقة هدمت كل جدران الثقة التي كانت يوماً قبل أن تتورط الفصائل في صراع على الحكم وينكشف جوعها للتسيّد.
تسع سنوات أعادت الناس إلى حالة التيه التي عاشها الشعب قبل أن تتشكل منظمة التحرير. فكم نحتاج كي نعيد بناء نظامنا؟ لا أحد يعرف. الحقائق مزعجة، لكن الأمل يبقى ارتباطاً بفصائل ضحّت من أجل فلسطين، فلا يمكن أن تكون أداة تدميرها...!!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية