تسعى تصريحات المسؤولين في دولة الاحتلال والإمارات العربية المتحدة، حول اتفاق التطبيع الموقع بينهما أخيراً، إلى جعل هذا الاتفاق يحتمل الكثير من الأوجه حول الغايات من إعلانه، والأطراف المستفيدة منه، وأبعاده الاستراتيجية على القضية الفلسطينية والإقليم.

ومع كل تصريح يصدر، وما يستجد من تطورات، تتكشف غايات التطبيع وأهدافه، وربما يتقدمها الغايات الأمنية، دون أي اعتبار لشعب يرزح تحت الاحتلال، ويكافح من أجل نيل حريته، وحقوقه التي تقرها وتعترف بها الشرائع والقوانين والأعراف الدولية والإنسانية كافة.

لكلٍّ حساباته فيما جرى ويجري من تطبيع، وتتضح في الحالة الإماراتية الغايات الأمنية سيما طلب أبو ظبي شراء مقاتلات أمريكية من طراز F-35، مباشرة بعيد الاعلان عن اتفاق التطبيع، مع عدم قبول إسرائيلي ضمني للصفقة، خشية من تضرر التفوق العسكري النوعي لدولة الاحتلال في المنطقة، وفي الحالة السودانية المرشحة تالياً في قائمة المطبعين فأهدافه الواضحة تتمثل في رفع العقوبات الأمريكية ونفي تهمة الإرهاب عن الخرطوم.

بينما تلبي اتفاقات التطبيع حاجات لدى إدارة ترامب، والحكومة الإسرائيلية، على حد سواء، تتمثل في تحسين الظروف الانتخابية لدونالد ترامب من أجل الفوز بولاية رئاسية ثانية، أما رئيس الحكومة الاسرائيلية فيبحث هو الآخر عن طوق نجاة أمام تراجعه السياسي نتيجة محاكمته في ملفات فساد، وتراجع تأييد اليمين له مما يضعف وضعه في الائتلاف الحكومي، إضافة للاحتجاجات الشعبية بسبب أداء حكومته في جائحة " كورونا "، وقبل ذلك البحث عن علاقات مع الدول العربية لإخراج دولة الاحتلال من عزلتها في الشرق الأوسط.

بينما يرى مراقبون محدودية الفوائد التي سيحصل عليها السودان في حال مضيه نحو التطبيع مع دولة الاحتلال، وربما تقتصر هذه الفوائد على قليل من المساعدات في المجال التكنولوجي والعلمي، إلى جانب الاستخباراتي، مع فتح شيء من قنوات التواصل مع البيت الأبيض، بيد أن الاستفادة الإسرائيلية تفوق ذلك بكثير، سيما وأن السودان سيتحول إلى دولة تدور في الفلك الصهيو-أمريكي بعد أن كان للخرطوم توجهات سياسية أخرى تعتمد براغماتية التحالفات بهدف الإمساك بأوراق لعب سياسي أكثر تسعى من خلالها لإدارة أزماتها المختلفة.

ومهما تكن طبيعة وشكل العلاقات الإسرائيلية مع الدول المطبّعة كالإمارات، وربما السودان وغيرها مستقبلاً، من أنماط التعاون الأمني والاستخباراتي، إلى جانب السياسي والاقتصادي، ما يصاحبها تشكيل تحالفات لمواجهة إيران وتركيا، فإن الوضع الفلسطيني هو الخاسر الأكبر أمام جموح المطبّعين، وتحويل قضية الشعب الفلسطيني من قضية سياسية حقوقية، ومركزية للأمتين العربية والإسلامية، إلى قضية أمنية تخص الفلسطينيين وحدهم.

ما تنحو إليه البوصلة الإسرائيلية في اتفاقات التطبيع يتلخص في اتجاهات عدة، أولها الاستحواذ على المكاسب الأكبر من استثمارات اقتصادية، وهيمنة سياسية، إضافة لضمان التفوق العسكري في المنطقة، وهو ما سعى لتأكيده رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو خلال مؤتمره الصحفي الأخير مع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، حين قال بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستضمن تفوق إسرائيل العسكري بنفس الطريقة التي قامت بها واشنطن بعد توقيع اتفاقات السلام مع مصر والأردن.

وفي الجانب الأخلاقي في السياسة الأمريكية تلك، تجاوز حقيقي للأعراف والقوانين والتشريعات الدولية في دعم كيان محتل غاصب على حساب شعب مستلب الحقوق، بل وعلى حساب عدد من دول المنطقة تعتبر من حلفاء الولايات المتحدة التي يمدونها بالطاقة "النفط والغاز"، وعلى حساب دافعي الضرائب من الشعب الأمريكي.

كما تتجه البوصلة الإسرائيلية صوب "لجم" إيران من خلال إعادة فرض العقوبات على طهران، ومنعها من تعزيز قدراتها العسكرية، وهو الحق الذي يمنحه الاحتلال لنفسه في منع الأخرين من امتلاك القدرات العسكرية، واستحواذه لها رغم مخالفة ذلك للأعراف الدولية، وهو الكيان الغاصب الذي يحتل أراضي الغير ويسلب حقوق الشعوب.

وقد ساعدت الولايات المتحدة، شريك دولة الاحتلال في جرائمها، من خلال الدعم السياسي والعسكري المطلق، حتى الوصول لاتفاقيات سلام مع دول عربية، إلا أن هذا الدعم المطلق كان يزيد من تضخم "الأنا" الصهيونية، وعنجهيتها تجاه دول المنطقة وشعوبها، فلم تحترم الاتفاقات، بل زاد من شهيتها في ضم المزيد من الأراضي، ويتضح ذلك من إعلانها صراحة اعتزامها ضم أراضٍ تشكل 30% من مساحة الضفة الغربية، إلى جانب ضمها للجولان السوري بمباركة أمريكية.

يستمر الخطاب السياسي الإسرائيلي في تقديم صورة "وردية" لاتفاقات التطبيع مع الدول العربية والإسلامية، وما ستجنيه دول المنطقة من ثمار مستقبلاً، بينما يتجاهل عذابات الفلسطينيين ومعاناتهم، ويستمرئ إنكاره والتفافه على حقوق الشعب الفلسطيني، بل ويلغي عروبة وإسلامية الأرض ومقدساتها.

وعلى الرغم من اعتماده استراتيجية التفوق العسكري النوعي على دول المنطقة، وعدم احترامه لاتفاقات السلام، وتكريسه لسياسة الهيمنة على الأرض ومقدرات الشعوب، واستلاب إرادتها السياسية من خلال ممارسة الابتزاز السياسي، إلا أن ثمة هشاشة تعتري قلب هذا الكيان وهيكليته السياسية والبنيوية، فقادة دولة الاحتلال لا يزالون يخشون التنقل بحرية في عدد من العواصم الدولية التي انتصر قضاؤها النزيه لقضايا إنسانية رفعها ضحايا من أبناء الشعب الفلسطيني طالهم بطش الآلة العسكرية الصهيونية في غزة وغيرها من الارض الفلسطينية.

ربما بات يستوجب على قادة دولة الاحتلال أن يضعوا في حساباتهم على الدوام إرادة شعوب سُلبت حقوقها لن تقبل بالسكوت على ضياع هذه الحقوق، كما أن دولة الاحتلال لن تستطيع تسويق أوهام سلام زائف يكرس سلب حقوق الآخرين، وزعزعة أمنهم، وتشريدهم، بينما ترفض القبول بسلام حقيقي يقوم على إعادة الحقوق، وتطبيق العدالة للجميع، فهل من الممكن أن يقوم سلام بلا عدل؟؟ وهل يضمن الكيان الصهيوني استمرار سيطرته من خلال امتلاكه للقوة العسكرية المتفوقة إلى الأبد؟؟ سيما وأن عجلة الزمان لا تتوقف عن الدوران، وللتاريخ دورته التي تتبدل فيها الأحوال، كما جرى مع امبراطوريات وقوى عظمى سادت، ثم بادت.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد