عرف التاريخ أحداثا جساما وسجلها في كتاب الزمن الزاخر بالأحداث العظيمة والملاحم الخالدة التي مرت بها الإنسانية، ومن أبرز وأهم الاحداث التاريخية التي سجلها كتاب الزمن، عمليات الحصار التي كانت تفرض على المدن والشعوب لغايات وأسباب متعددة، فمنذ القدم حدثنا التاريخ عن حصار طروادة وحصار قرطاج، وفي التاريخ الوسيط حدثنا التاريخ عن حصار كانديه وحصار فيينا وحصار ستالينغراد وليننغراد أما في العصر الحديث فقد عرف التاريخ حصار بيروت وحصار سراييفو وحصار بغداد وحصار ليبيا وأخيرا لم يبق على ظهر الأرض في زماننا هذا إلا حصار غزة الذي نعيش أحداثه منذ ما يقارب الخمسة عشر عاما من الزمن.


هذه القائمة من البلدان والمدن التي خضعت للحصار عبر التاريخ الإنساني، تجلت فيها صوراً من الحياة الإنسانية بما فيها من معاناة وصمود وتضحية، وعلى جانب آخر صورت صوراً من الخيانات والهمجة والدموية، واختلفت نتيجة الحصار في كل بلد ومدينة عبر التاريخ، فبعض المدن التي تعرضت للحصار صمدت وكسرت إرادتها إرادة محاصريها، وبعضها سقطت وانهارت تحت وطأة الحصار.


وتفاوتت فترات الحصار التي خضعت لها البلدان والمدن في آمادها، ولكن ما سجله لنا التاريخ أن أطول حصار مر في تاريخ الإنسانية هو حصار مدينة كانديه عاصمة جزيرة كريت، حيث مكث 21 عاما، ثم يأتي حصار غزة الذي مازال مستمرا حتى كتابة هذه السطور في المرتبة الثانية في طول مدة الحصار المفروض عليها.


وبالمقارنة بين حصار غزة وحصار كاديه وأسباب كل منهما، نجد مفارقات عجيبة تسترعي انتباه كل ذي بصيرة  مدينة كانديه تقع في جزيرة كريت، حوصرت على يد القوات العثمانية حيث استمر حصارها لمدة 21 عاماً منذ عام 1648 حتى عام 1669 ميلادي، وكان سبب حصار المدينة، أن فرساناً من مالطا هاجموا قافلة عثمانية في طريقها من الإسكندرية إلى القسطنطينية، واستقروا في كانديه مع المسروقات، التي شملت جزءاً من حريم السلطان أثناء العودة من الحج إلى مكة المكرمة.


ردا على ذلك، نزل 60,000 من القوات العثمانية بقيادة يوسف باشا على جزيرة كريت واحتلت عدد من المدن وتقدم العثمانيون لاحتلال بقية الجزيرة وعلى وجه الخصوص العاصمة كانديه ففرضوا الحصار عليها لإجبارها على الاستسلام.


مدينة كانديه تلقت خلال حصارها الطويل المعونة والمساعدة من القوات الأوروبية التي حاولت فك الحصار عنها بكل السبل، ومن ذلك ما قامت به القوات الفرنسية بشن حملة بر- بجريه ضد القوات العثمانية المحاصرة للمدنية ولكنها فشلت فشل ذريعاً.


ما مكن مدينة كادية الصمود طوال كل هذه الفترة هو الدعم العسكري واللوجستي الذي تلقته من الدول الأوروبية ورغم ذلك سقطت المدينة. وكما يقول كتاب التاريخ أن البعد الديني كان حاضرا من خلال البابا كليمنت التاسع الذي عمل بكل قوة على تعزيز دفاعات مدينة كانديه أمام الهجمات العثمانية، وعقب تلقيه أنباء سقوط كانديه في أيدي العثمانيين، استسلم للمرض ولم يلبث أن توفي في ديسمبر من العام ذاته.


حصار غزة يكاد تقترب في مدته من حصار كانديه رغم فارق السبب والنتيجة المتوخاة، ففي حين أن سبب حصار كانديه جريمة ارتكبت بحق الدولة العثمانية، وكانت نتيجته سقوط المدينة بيد القوات العثمانية التي انتقمت ممن ارتكبوا الجريمة، أما غزة فجريمتها التي فرض الحصار عليها بسببها أنها قاومت عدوها الذي غزاها في عقر دارها وهجر شعبها وقتل أبنائها (جريمة غزة) أنها قاتلت وفقاً لقواعد القانون الدولي الذي وضعته شعوب " العالم الحر" والذي منح الشعوب حق مقاومة المحتل بكافة الوسائل بما فيها الكفاح المسلح.


غزة لم ينتصر لها العرب، فلم يجهزوا الحملات من أجل فك حصارها، ولم يدعموا صمودها بل تخلوا عنها، لا بل شددوا من حصارها وتأمروا عليها، وطبعوا مع محاصرها، ومنعوا عنها دواءها وسربوا للعدو معلوماتها لينال منها، وبقيت غزة تقاتل وحدها وتضمد جراحها وتكفكف دموع أبنائها وتدفن قتلاها بيدها وتصبر رغم الخذلان.


ورغم ذلك استخدمت غزة كل ما يمكن لها أن تستخدمه من طائرات ورقية وبالونات ومسيرات وصواريخ صنعتها على عينها حتى لا تسقط، وبقيت شامخة وأهانت محاصريها وتمكنت من الصمود رغم وحدتها ورغم بشاعة الخيانة التي تتعرض لها.


سقوط مدينة كانديه كان سبباً في موت البابا كما ذكرنا لحزنه الشديد لسقوط مدينة مسيحية في يد قوات مسلمة هي القوات العثمانية.


لكن المراجع الدينية الرسمية العربية التي تشهد حصار غزة تساوقت مع محاصريها وبررت خذلان القادة والزعماء، وسوقت ثقافة الهزيمة، وحاولت ثنى غزة عن صمودها وطوعّت لها الاستسلام والهزيمة، لم نسمع عن مرض أحدهم أو موته كمداً على حصار غزة، بل لقد زار بعضهم الكيان الغاصب المحاصر تحت دعاوى دينية واهية، ظناً منه أنه يكسر عزيمة الصامدين، ولكن هيهات للكرامة والعزة أن تغادر عرين الأسود.
غزة اليوم عازمة عزماً أكيداً على أن تقتلع شوكها بيدها وأن تكسر قيدها بأسنانها وأن تكتب للتاريخ ملحمة جديدة من ملاحم التاريخ الخالدة التي ستذكرها الأجيال كلما ذكرت الغزة والكرامة.


وستكون غزة المدينة الأولى التي تخرج منتصرة من حصارها الطويل رغم انقطاع أسباب صمودها المادي كلياً، ولكنها ستنتصر بإيمانها بالله أولا ثم بقوة إيمانها بعدالة قضيتها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد