من المهم ونحن نخوض المعركة لمواجهة الجائحة والحد من انتشار الوباء الانتباه إلى ضرورة التثقيف المجتمعي في خلق حالة الوعي الفردي، الذي هو أساس الوعي الجمعي بضرورة اتخاذ التدابير اللازمة من أجل السلامة الشخصية. وعند مراقبة تطورات المعركة لمواجهة الفيروس، يمكن لنا أن نتيقن للدور الكبير المناط بكل فرد في المجتمع في حماية الجميع. وفيما نجحت الجهود في تخفيف حدة انتشار الفيروس وعدم استفحاله بشكل غير متحكم به، من خلال تحديد البؤر الوبائية، والتعامل الناجع مع القضايا المترتبة على الحجْر والإجراءات التي اتخذت من أجل السلامة العامة وتبعاتها، فإن بعض التصرفات الفردية وفي مرات عدم الالتزام بطرق الوقاية واتباع الإجراءات، كان لها انعكاسات خطرة على الصحة العامة. لذا فإن تصرفات فرد ما في محيطه المجتمعي قادت إلى إصابة العشرات، وفي مرات المئات من المواطنين، وبذلك ساهم في إيقاع الضرر بالمجتمع، وكان الضرر كبيراً.


ولا يبدو في أي مكان آخر إلا في الحروب، ومواجهة انتشار الوباء حروب من نوع آخر، التداخل بين السلامة الفردية والسلامة الجماعية. فقط في مثل تلك اللحظات المصيرية التي يكون مصير الشعب كله على المحك يكون الفرد، كل فرد، هو المقرر في ذلك، حيث إن تقاعس مواطن واحد من شأنه أن يفشل كل الجهود المبذولة في المعركة. يشبه هذا إلى حد بعيد الحرب، حيث إن جندياً واحداً إذا لم يقم بدوره وتقاعس في الدفاع عن خندقه وفر للعدو ثغرة يخترق فيها دفاعات جيشه. وأي خيانة أكبر من تلك. ونفس الشيء عند الهجوم، فإذا لم يقم أحد الجنود بتنفيذ الجزء المناط به في الخطة فشلت الخطة برمتها.


ومربط الفرس في ذلك هو الثقافة التي جوهرها القيم. والفرد حين يدرك أن كل خطوة قد يقوم بها ستوقع الضرر بالأفراد الآخرين في المجتمع، وحين يؤمن بأن إيقاع الضرر بالآخرين جريمة على صعيد القيم، فإنه لا بد له أن يفكر ألف مرة قبل أن يقوم بهذه الخطوة. هذا هو جوهر التضامن المجتمعي حين لا يقوم المواطن بالتصرف من إرادته فقط بل من إرادة الآخرين لأن الإرادة الفردية لا يمكن لها أن تنتهك الإرادة الجماعية، وربما أن أساس العقد الاجتماعي الذي هو جوهر التعاقد المجتمعي يكمن في هذه الثقة التي لا بد أن تتولد، بالضرورة، لدى الأفراد بأن الخير العام أفضل بكثير من الخير الفردي، وأن الأخير لا يمكن أن يتحقق بمفرده أو أن التوهم بتحقيقه دون إدراك العلاقة المصيرية بينه وبين الخير العام لا يقود إلى استقرار المجتمع بل إلى اقتتال الجميع ضد الجميع، وهي الحالة التي يبحث جميع الأفراد عن الخروج منها في سبيل سلامة القطيع.


ولا يمكن فهم كيف تحولت المجتمعات من مجموعات أفراد متناحرة إلى مجتمعات مستقرة دون فهم النزوع الفطري إلى هذا التعاقد الذي يجعل الفرد مهدداً دون الجماعة. هذا مع تعمق أننا بحاجة للعودة إلى هذه النقطة حتى نفهم لماذا يكون الفردي جوهر الجماعي، ولماذا تكون ثقافة الفرد أساس ثقافة المجتمع، لأن فرداً واحداً يمكن له أن يدفع القطيع إلى الهلاك بمعرفته أو بجهله. وعليه فإن البحث في تلك العلاقة مهم في تأسيس أي تثقيف مجتمعي يهدف إلى وضع المجتمع على الطريق السليم في تحمل المسؤولية المشتركة. لأن كل قوى الأرض لا يمكن لها أن تفرض على الأفراد شيئاً يرتبط بالقيم. مثلاً حين يتعلق الأمر بلبس الكمامة وهو الحد المعقول لحماية الفرد ولحماية الآخرين من الفيروس. في حال كان الفرد مصاباً، فإن الالتزام لا بد أن يكون طوعياً ونابعاً من إدراك وإيمان بأهمية فعل ذلك وبحتميته. قد تسجن المواطن وقد تفرض عليه غرامة، وقد توقع بعض العنف في من يتخلف عن لبس الكمامة، لكن هذا قد يعني أنه قد تضطر لإيقاع العقوبة على كل مخالف، وهذا دون إدراك ذاتي قد يعني الشعب برمته. صحيح أن إيقاع العقوبة هو أساس إنفاذ القانون مهما زاد تعداد المخالفين، ولكن في مثل تلك الحالات فإن سجن المواطنين مثلاً قد يبدو تجاهلاً للمفاهيم الأساسية للتباعد. تبعات كثيرة ترتبط بذلك تعيدنا إلى مربط الفرس الذي أشرنا إليه قبل قليل، أن الأساس هو القيم. فـ»الأمم الأخلاق ما بقيت» وفي اللحظة التي لا يكون ثمة مكان لتلك القيم، فإن الأمم تحكم على نفسها بالعودة إلى فوضى الطبيعة التي يموت فيها الجميع ولا ينجو أحد.


وعليه، فإن كل عمليات التوعية يجب أن ترتبط بالحض على التمسك بالقيم وإعادة الاعتبار لها. هذا يتطلب تعريفاً للقيم التي يجب أن نناضل من أجل توطينها في المجتمع، وهي في الأساس تلك القيم التي تراجعت بسبب أشياء كثيرة أو أنها اختفت أمام فجاجة التقدم والتحضر ودخول بعض المؤثرات الخارجية على حياتنا. وبتعريف تلك القيم لابد من العمل على تفعيل حضورها في المجتمع من إخلال التركيز على أهميتها بالنسبة لنا كأفراد ولنا كمجموعة أفراد. وهذا بقدر كونه أمراً طارئاً في ظل الجهود لمحاربة « كورونا »، لا بد أن يكون جزءاً من عملية بناء مجتمعي ثقافياً من أجل حماية المجتمع من المزيد من التراجع في قيمه ومسلكياته. وعليه فالعمل يجب أن يتم باتجاهين ولكن بحزم وإصرار لتمكين هذه القيم من استعادة مكانتها بين الفرد وفي أوساط المجتمع.


هذا ليس بالشيء البسيط ولا يمكن إنجازه بسهولة وبسرعة، لكنه ضروري وممكن. وربما يكون أحد أهم الدروس التي يجب تعلمها ونحن نخوض الحرب للقضاء على «كورونا».
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد