لا يمكن تجاهل ما يحدث في المنطقة من تقارب بعض العرب وإسرائيل، تحديداً هنا دول الخليج، ولا يمكن تجاهل علاقة الأمر بالاضطراب الذي حل في الإقليم وكانت نتائجه في صالح تل أبيب، ولا يمكن تجاهل أن تلك العلاقات ليست وليدة العام الأخير ولا حتى في ولاية ترامب، بل قبل ذلك.
قبل اللقاء الأول الذي جمع ترامب بنتنياهو أثناء ما كان يتحضر الأخير للسفر جمع مستشاريه لبلورة المطالب الإسرائيلية من ساكن البيت الأبيض الجديد، وكان رأي المستشارين أن يبتعد عن الملف الفلسطيني، وأن يطلب من الرئيس ترامب الضغط على الدول العربية التي تقيم علاقات سرية مع إسرائيل لتشهر هذه العلاقات وأن تتحول إلى علنية معها.
دول الخليج العربي إذا ما أخذنا بالتقسيم الذي حدث في المنطقة وليس بالضروري أن يكون دقيقاً هي محسوبة على محور الاعتدال الذي يقف خلف السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، وبما حدث وسيحدث تكون السلطة قد فقدت محورها الحليف بعد أن فقدت «محور الممانعة» وبالتالي تترك الآن وحيدة في مواجهة رياح وعواصف التطورات السياسية في المنطقة.
لا يمكن مقارنة الاتفاقيات السابقة مع إسرائيل باتفاقيات لاحقة يكون طرفها إحدى دول الخليج العربي.
فمصر مثلاً حين عقدت اتفاق كامب ديفيد كانت في إطار إعادة الأراضي المصرية المحتلة أي وفق معادلة «الأرض مقابل السلام»، وكذلك الأردن وإلى حد ما منظمة التحرير التي حلمت بذلك رغم اكتشاف كم كانت واهمة، وتلك معادلة، وإن كان مخترعها هو دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل كان يقصد مساومة وابتزاز العرب لقبول إسرائيل جاراً لهم.
هذا ربما ينطبق على دول الطوق أو الصراع المباشر التي تمكنت إسرائيل من احتلال جزء أو كل من أراضيها مثل سورية مصر والأردن وفلسطين ولكن تلك المعادلة لا تنطبق على دول بعيدة.
الخليج العربي ليس على تماس مباشر مع إسرائيل، والجيش الإسرائيلي رغم قوته لا يشكل تهديداً مباشراً لها.
وليس من المنطقي أيضاً القول إن دول الخليج تدفع مرغمة باتجاه إسرائيل بل إن تلك الدول كانت تتقرب دوماً للمنظمة، وحتى بعد أن اتخذت هذه المنظمة موقفاً أغضب دول الخليج من اجتياح العراق للكويت سارعت السعودية إلى مصالحة ياسر عرفات عندما اصطنع رحلة عمرة إلى المملكة فوجئ بموكب ملكي ينتظره في المطار ويأخذه نحو القصر لتنقية أو بمفهوم اليوم لـ «تطبيع العلاقات» فما الذي تغير؟
كانت النظم العربية تستمد جزءًا كبيراً من مكانتها وشعبيتها بين شعوبها من خلال رعايتها للقضية الفلسطينية، وبالتقارب مع الفلسطينيين وبإعلان مواقف جادة وحادة ضد إسرائيل، فهل لم تعد الشعوب العربية مهتمة بالقضية كما السابق وأصبحت لديها أولويات في عصر التكنولوجيا والاهتمامات الفردية والسوشيال ميديا، أم ماذا مع الاضطراب في الإقليم و فتح معارك وتهجير؟
ولكنّ هناك حقائق لا بد أن تهزنا جميعا هزة الإفاقة لأن الغضب وحده لا يكفي لتحليل وتقدير الموقف، ولا يساعد على رؤية الصورة بشموليتها.
هناك حقائق مهما بلغت مرارتها لا بد من الاعتراف بها، فالسياسة هي ابنة الواقع والوقائع وليست ابنة الانفعالات.
هل يتقرب العرب من إسرائيل خوفاً من قوتها العسكرية أو لأنها تمكنت من بناء جيش قوي ومهدِّد لعواصم العرب؟
أغلب الظن لا، لأن من بات يتقرب من تل أبيب ليس من دول الطوق مثل سورية ولبنان بل دول لا تقع في مجال التهديد الإسرائيلي على الإطلاق لا على المدى القريب ولا البعيد.
ولم يرد في أي من الوثائق الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة أي أطماع إسرائيلية أو رغبة باستهداف تلك الممالك والإمارات مثلما كان مخططاً لمصر وسورية اصطياد بنظرية «الرمح والشبكة» الرمح لمصر أي أن تجرح والشبكة لسورية.
لكن الحقيقة المرة أن العرب الذين يتقربون منها باتوا يرونها دولة متطورة في التكنولوجيا والطب والسلاح والديمقراطية وحرية التعبير والقانون والفضاء والأقمار الصناعية والأبحاث العلمية في ظل فقرهم من كل تلك باتوا يبحثون عنها.
فقد شكلت إسرائيل في السنوات الأخيرة نموذجاً متقدماً قياساً بالحالة العربية التي أصبحت تدير صراعات داخلية بعيدة عن كل تلك المجالات، فقد باتوا بحاجة لها حتى في التجسس على الصحافيين والمعارضين السياسيين، يستعينون بإسرائيل مثل برنامج «بيغاسوس» لملاحقة المعارضين وقتلهم، «شخصيا لا أرى إسرائيل ذلك النموذج لأن تجربتي الشخصية ورحلاتي لعواصم مثل برلين ولندن وباريس وواشنطن تقول إن إسرائيل مجرد مقلد لهذه الدول».
وعلى الجانب الآخر نحن لم نعد قوة جاذبة كما السابق حين كانت تلك الدولة التي تسعى للتطبيع مع إسرائيل تبحث عن أي رابط مع القضية الفلسطينية، إذ انتهى زمن الثورة وطهرانية الكفاح وقدمنا نموذجاً لا يسرّ، وبدا المشهد أننا مجموعة من جوعى السلطة والحكم الذين لا يكفون عن الصراع من أجل سلطة تحت الاحتلال.
أي باختصار لم نقدم سوى نموذجهم الذي تخلف عن العالم في كل شيء بل وزاد عليه صراع السلطة الذي لا ينتهي.
تلك واحدة من أبرز القضايا والحقائق شديدة المرارة والتي علينا أن نتأملها بهدوء.
حقيقة صادمة حقاً، وليس الهدف منها تحطيم الذات بقدر أن الهدف هو النظر لمرآتنا جيداً بعد كل هذا الانهيار العربي لأن مساحات الفعل تضيق أمامنا على مستوى العالم وعلى مستوى الإقليم، ولكن إمكانية أن نفعل كل شيء داخليا هذا بأيدينا نحن، ولا حجة أمامنا سوى إعلان العجز عن تصويب الذات وذلك أقل ما يمكن أن نقوم به، وهذا قرار فلسطيني لا يحتاج العالم ولا العرب.
أمامنا فرصة الانكفاء للداخل وترميم البيت والمؤسسات التي تقادمت بفعل عوامل التعرية السياسية حد الانكشاف.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد