لم يشهد لبنان منذ نحو أربعين سنة، رغم حدوث مواجهات عسكرية خلال تلك الفترة مع إسرائيل، كارثة كالتي وقعت الأسبوع الماضي، وراح ضحيتها نحو مائتي قتيل، ونحو خمسة آلاف جريح، إضافة لعدد من المفقودين تحت الركام، والأخطر هو تشريد نحو ثلاثمائة ألف شخص، فيما بلغت الخسائر في بلد يعاني أصلا من أزمة اقتصادية حادة نحو عشرة مليارات من الدولارات، لذا كانت ردود الفعل الداخلية والخارجية على نحو سواء، صاخبة، برز هنا بالخصوص سفر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على وجه السرعة الى بيروت، للوقوف عن كثب على حقيقة ما جرى، ثم تنظيمه مؤتمرا دوليا لمساعدة لبنان على الخروج من المحنة.
بقدر ما كانت مثيرة للغرابة مطالبة عشرات الآلاف من اللبنانيين، بمن فيهم فنانون مشهورون، بعودة الاستعمار الفرنسي للبنان، إلا ان الواقعة تذكر ما يحظى به لبنان من "اهتمام فرنسي" لم ينته أو يتوقف منذ انسحاب فرنسا منه العام 1943، ذلك أن فرنسا الاستعمارية في ذلك الوقت شأنها شأن الاستعمار البريطاني، لم تخرج إلا وكانت تبقي على أسباب التوتر والصراع الداخلي والخارجي للإبقاء على خيوط البلد العربي بيدها، كان ذلك من خلال ضرب العلاقة الوثيقة بين لبنان العربي ومحيطه، خاصة سورية التي سلخت منها لواء الإسكندرون ومنحته لتركيا، ثم وضعت أساس النظام الطائفي في لبنان، للإبقاء أولا على امتياز الطائفة المسيحية، المارونية خاصة، وثانيا على نظام يمكن وصفه بأنه كونفدرالية طائفية لنخبة الأغنياء من الإقطاعيين، ثم الأثرياء.
وفعلا لعب النظام الطائفي لاحقا، وعبر تاريخ دولة لبنان ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي دورا في محاربة نظام التحرر العربي، حيث وقعت حرب عبد الناصر ــــ كميل شمعون العام 1958، ثم بعد نحو عقدين، من ذلك الزمان، وبمراكمة العداء للنظام القومي بما فيه السوري، ومن ثم المقاومة الفلسطينية، اندلاع الحرب الأهلية، بحجة استقلال لبنان وسيادته تجاه كل ما يخص ما هو عربي، مقابل انفتاحه على الغرب، وحتى على إسرائيل وان كان بشكل خفي، ظهر جليا في اجتياح الجنوب ومن ثم بيروت من قبل إسرائيل في عامي 78، 82.
في حقيقة الأمر وبعد مرور ما يقارب ثمانين سنة، تغيرت الأحوال كثيرا، خاصة على الصعيد الديموغرافي، ولم يعد ممكنا مع تطور العصر والعالم، أن تبقى صيغة 1943 للنظام الطائفي ممكنة، وهي صيغة قاربتها الولايات المتحدة في العراق بعد أن احتلته العام 2003، حيث عجزت تلك الصيغة، ليس فقط عن إعادة العراق لماضيه الكريم، ولكن عن كبح جماح الانفصال الكردي، وتحطيم الأطر والعلاقات الطائفية، بتقريب الدولة من الصيغة العصرية، أي الدولة المدنية، لذا فإن الفساد الذي استشرى في نظام الحكم اللبناني، على الأرجح هو السبب الحقيقي في حدوث كارثة بيروت الأسبوع الماضي.
لا شك بأن السياسة تلعب هنا في المياه المتعكرة، فما كما روج له من قبل الانعزاليون والشعبويون، من ان مشاكل لبنان سببها وجود المقاومة الفلسطينية، فإن أبواق الغرب الاستعماري، يحاولون، اليوم، ان يعلقوا مشاكله على مشجب "حزب الله"، والحقيقة ان الإعلاء من شأن الانتماء الطائفي، يجعل من التدخل الخارجي أمرا ممكنا، نظرا لأن العلاقات الطائفية عابرة للحدود الوطنية، ومتجاوزة لقوانين البلاد، ومن يبيح لنفسه التدخل في شأن غيره، عليه ان يقبل بنفس الدافع تدخل الآخرين أيضا.
المهم ان الشعب اللبناني بات يدرك حجم وطأة النظام الطائفي على كاهله، وهو حين يخرج للشارع، يندد بنخبة الحكم من كل الأطياف والمراجع الطائفية، يدرك أن الفجوة هي بين الشعب وأركان الحكم، وبين الأغنياء والفقراء، وان الفساد لا يستثني أحدا، من نخبة الموارنة والسنة والشيعة، وان التغيير يجب ألا يكون شكليا ولا مؤقتا ولا حتى مرحليا، ويجب الا يتوقف عند حدود إجراء انتخابات عامة مبكرة.
لقد اقترب ماكرون مع ذلك من جوهر المشكلة، حين تحدث عن ضرورة تغيير النظام، وهنا ينشأ السؤال الحقيقي وهو يتعلق بطبيعة ذلك التغيير، الذي لا بد ان يتماشى مع طبيعة العصر، ويتجاوز الطائفية ونظامها المعمول به منذ 1943، بحيث يصبح للبنان نظام حكم برلماني كامل، وفق نظام الدائرة الواحدة، ولا يحدد طبيعة الانتماء الطائفي لرئيسه او لرئيس وزرائه ورئيس برلمانه.
بل لا بد من إلغاء بند الطائفية من البطاقة الشخصية، والحد من السلطة الدينية وتدخلها ليس في الشأن السياسي فقط، بل وحتى في الشأن المدني، بحيث يسمح النظام الجديد المدني بإقامة التداخل والتزاوج بين أبناء الشعب الواحد، ولا يمنع التزاوج والتداخل بين أبناء الطوائف، وبهذا يتوحد الشعب ويستقل ويحكم نفسه بنفسه، لا أن يعود الاستعمار الى حكمه والتحكم به مجددا، لا بشكل مباشر ولا عبر نخبة حكم موالية او تابعة او حتى عميلة لهذا الطرف او ذاك في الخارج اللبناني.
بمقدور لبنان حين يتجاوز نظامه الطائفي ان يعود ليمثل نموذجا يحتذى به في التعايش الطائفي، لدى الشعوب العربية، فما انطلق الربيع العربي، إلا ليرسي نظاما عصريا مدنيا ديمقراطيا، لا ليحدث انقلابا هنا او هناك يطيح بهذا ويأتي بذاك، ولا يغير من جوهر الاستبداد شيئا.
وحتى يبقى لبنان بلدا عربيا، محبوبا، ليس مطلوبا منه أن يتحول فرنسيا او إيرانيا، بل أن ي فتح أبواب التعايش على قاعدة المساواة بين كل أفراد الشعب، وأن يقيم نظاما ديمقراطيا شعبيا، بديلا لنظام النخب الطائفي الحالي، ثم أن ينفتح على محيطه الشعبي العربي، فمعركة أو حرب الشعوب العربية كلها، أولا ضد الاحتلال الأجنبي بذكرياته المؤلمة، وبحضوره الإسرائيلي البغيض، وثانيا ضد الاستبداد والتمييز عبر أنظمة منحازة بل معبرة عن مصالح الأغنياء، حرب الشعوب العربية كلها ومنها اللبناني، ضد الاستبداد وحجز النمو الاقتصادي خاصة، من أجل بناء مجتمعات الرفاهية الحديثة، والانخراط في العصر الحديث بشكل إيجابي، مشارك.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد