في سياق الجدل الفكري المصاحب ل صفقة القرن الأمريكية ومشروع الضمّ الإسرائيلي برزت في الساحة الفكرية الفلسطينية ثلاث وجهات نظر تتعلق بمستقبل السلطة الفلسطينية ككيان جاء كجزء من مسار التسوية وأصبح يمثل واقع سياسي وإداري وأمني يصعب الاستغناء عنه، خاصة في الوقت الذي يشهد محاولات أمريكية وإسرائيلية لتخفيض سقف التوقعات الفلسطينية بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967.

الجدل الفكري الدائر حول السلطة الفلسطينية وشكل الحل المنتظر، ترافق مع اشتداد المعركة السياسية مع الاحتلال الإسرائيلي حول مشروع الضم، ومع إدارة ترامب حول تطبيق ما يعرف بصفقة القرن؛ بما تحمل من مخاطر كبيرة للمشروع الوطني الفلسطيني وحلم الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وترافق أيضًا مع الجدل الفكري المصاحب حول شكل الحل المقبول فلسطينياً (حل الدولة الوحدة أم الدولتين) في ضوء فشل مشروعي التسوية المقاومة، بعد أن وصل أصحاب المشروعين لطريق مسدود، فلم تعد المفاوضات قادرة على الوصول لتسوية عادلة على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، وأيضًا لم تعد البندقية قادرة على تغير المعادلة السياسية أو تحريك الوضع القائم بعد أن حشرت نفسها في زاوية غزة ، وأصبحت تستخدم فقط للحفاظ على مكتسبات الحكم في هذه الرقعة الصغيرة.

وجهة النظر الأولى: تنطلق من ضرورة حل السلطة الفلسطينية باعتبارها جزء من مشروع التسوية الذي أثبت فشله، بالتالي يجب التخلص منها والعودة إلى مربع الصفر في العلاقة مع الاحتلال، عبر دفع الاحتلال الإسرائيلي لتحمّل مسؤوليته بعد أن تحولت السلطة تحت الاحتلال (لسلطة بدون سلطة واحتلال بدون كلفة)، في هذا السياق يرى أصحاب هذا الرأي أن وجود السلطة الفلسطينية وقيامها بالدور الكبير في رعاية شؤون المواطنين بدل الاحتلال يجب أن ينتهى عبر تفكيكها أو دفعها لانهيار في سياق المواجهة الشاملة مع الاحتلال، كما حدث خلال انتفاضة الأقصى عام 20000.

أصحاب وجهة النظر هذه ينقسموا إلى تيارين، التيار الأول: مازالت حركة التاريخ لديه متوقفة عند حديقة البيت الأبيض عام 1993، التي شهدت التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ " أوسلو" باعتباره خطأ وخطيئة، فهو مازال يضاجع الفكرة الأيديولوجية صباحاً مساءً التي ترجع كل أزمة في السياق الفلسطيني لاتفاق أوسلو، وبالتالي يتخذ من الاتفاق ومخرجاته مواقف عدائية، فهو رافض لاتفاق أوسلو، والجنة التي يمكن أن تأتي من خلفه، باعتباره موقف تنظيمي صلب، لا يمكن أن يتغير إلا إذا قضى على أوسلو وكل ما يمكن أن يأتي في سياقه.

التيار الثاني: من وجهة النظر الأولى التي ترى ضرورة حل وتفكيك السلطة الفلسطينية، هو التيار الذي ينصب العداء للمشروع الوطني باعتباره نقيض تاريخي لمشروعه الأممي، فهو يرى في السلطة الفلسطينية ككيان وطني يجسد الوطنية الفلسطينية النقيض التاريخي والأيديولوجي لمشروعه الحزبي، لذلك يعتبر السلطة الفلسطينية العقبة الكبرى في سياق تحقيق حلمه في تزعم المشهد الفلسطيني وقيام دولته الخاصة.

الغريب أن أصحاب وجهة النظر الأولى التي تري ضرورة تفكيك السلطة لاعتبارات متعددة لا تتحدث بأي كلمة حول سلطة الأمر الواقع في غزة، فهل يا ترى أصحاب وجهة النظر هذه لا ينظرون لسلطة الأمر الواقع في غزة باعتبارها جزء من مخرجات أوسلو التي يجب أن تنسف في سياق الخروج من مسار هذا الاتفاق، أم أصبحت هذه السلطة مكسب ومغنم في حد ذاته، لا يجوز المساس به انتظارًا لما سوف تفضي به الاحداث في قيام الأيام!

وجهة النظر الثانية حول السلطة الفلسطينية، ترى ضرورة تحويل وظيفة السلطة لكي تصبح كيان إداري فقط، يشرف على تقديم الخدمات الأساسية للسكان، بدون أي رموز سياسية، على اعتبار أن مواجهة مشروع الضم وصفقة القرن باتت تتطلب ضرورة إعادة تموضع الكيانات الفلسطينية المحلية في سياق تقديم الخدمات الأساسية مثل (الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية)، ونقل الدور السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الكيان الجامع للكل الفلسطيني، عقب تقويتها وإعادة تفعيلها وتطوريها على أسس ديمقراطية كشرط للقيام بهذا الدور، وكأن بين السلطة والمنظمة صراع وجود، إذا ضعفت واحدة لا بد أن تقوى الثانية!، رغم أنني لا أرى أي تناقض بين دور السلطة السياسي والإداري والخدماتي باعتبارها أحد فروع الحقل السياسي الفلسطيني الذي تسيطر عليها منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

منظرين وجهة النظر هذه يرون أن أفضل طريقة لموجهة صفقة القرن ومشروع الضم؛ الرجوع خطوة أو خطوات للخلف، وإعادة تموضع لسلطة الفلسطينية في شكل خدماتي (بلديات) لموجهة الصلف الإسرائيلي والتحول الاستراتيجي في الموقف الأمريكي، على اعتبار أن السلطة بما تحمل من رموز سياسية وبما تمثل من كيان سياسي على طريق الدولة أصبحت تشكل عبء على الحالة الفلسطينية، لذا يجب تحويل دورها الوظيفي والإداري والانتقال بها من مشروع للدولة لمشروع للحكم الذاتي، وفي ذلك ربما تماهي غير مقصود مع مخططات الاحتلال الإسرائيلي التي تريد تحويل السلطة لمجرد وكيل من الباطن في إدارة شؤون السكان، عبر إيجاد كيانات محلية ذات طبيعية اجتماعية واقتصادية في إطار رؤية اليمين الحاكم في إسرائيل التي تري في السلام الاقتصادي والحكم الذاتي المحدود الحل الأمثل للمسألة الفلسطينية.

أصحاب وجهة النظر هذا ليسوا بعدين عن أصحاب وجهة النظر الأولى التي تري ضرورة حل السلطة، فهم يتقاطعون سويًا في أمرين، الأول العداء الشديد لأوسلو ومخرجاته، والثاني عدم التطرق نهائيًا لسلطة الأمر الواقع في غزة باعتبارها من المحرمات التي لا يجب التطرق إليها باي شكل من الأشكال، فأصحاب وجهة النظر الأولى والثانية لا يقولون لنا في حالة حَل السلطة أو إعادة تموضع دورها الإداري والوظيفي كيف سيكون شكل ودور سلطة الأمر الواقع في غزة؟

وجهة النظر الثالثة، التي تنظر للسلطة الفلسطينية باعتبارها مكتسب وطني يجب الحفاظ عليه، والعمل على إعادة تحويل دوره الأمني تجاه الاحتلال الإسرائيلي في سياق استراتيجية التحلل من الاتفاقيات الموقعة، والخروج الناعم من مسار أوسلو، لعدم إحداث ردأت فعل عنيفة من الاحتلال خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تترافق مع جائحة كورونا والعقوبات الأمريكية، وشح التمويل الدولي والعربي، عبر الحفاظ عليها ودعمها وتطويرها باعتبارها نواة الدولة الفلسطينية العتيدة.

فمواجهة مشروع الضم وصفقة القرن من وجهة نظرنا لا تتطلب حل السلطة أو إعادة تموضع دورها الإداري والخدماتي، وإنما يتطلب العمل على تطوير مؤسساتها وأجهزتها ومكانتها في المنظومة الدولية لكي تصبح دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وليس العكس!

منظرين وجهة النظر الثالثة وصاحب المقال أحدهم؛ يرون أن فشل عملية السلام ومسار التسوية واتفاق أوسلو لا يتطلب التراجع خطوات للخلف أو نسف المكتسبات الوطنية التي تحققت عبر مسيرة طويلة من النضال لصالح أجندات حزبية وإقليمية؛ وإنما يتطلب تظافر الجهود لإنهاء الانقسام أولاً باعتباره يمثل عقبة كبيرة أمام المشروع الوطني الفلسطيني وأمام حلم تجسيد الدولة، والاتفاق على آليات وأدوات مناسبة لمواجهة صفقة القرن ومشروع الضم على المستوى الداخلي والخارجي، وتعزيز وتطوير دور السلطة ككيان سياسي، وليس إعادة تحويل دورها في إطار خدماتي بما ينسجم مع استراتيجية الاحتلال الذي يبحث عن أي كيانات محلية تقوم بدور السلطة الفلسطينية الإداري والخدماتي بهدف إبعاد سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن إدارة شؤون السكان، والتركيز على إدارة الأراضي والموارد.

يجب أن يدرك الجميع أن السلطة الفلسطينية ليست عبء على أحد؛ بل هي مكتسب وطني يجب العمل على دعمه تطويره في إطار الحفاظ على الكيانية الفلسطينية الهوية الوطنية؛ كجزء من الرد على السردية الصهيونية التي تحاول التعامل معنا على أننا تجمعات سكانية – في غزة والضفة الغربية والقدس، والداخل- ولسنا شعب يتمتع بحق تقرير المصير كباقي شعوب العالم، بما يجعل من بقاء السلطة الوطنية ككيان سياسي وإداري يجسد الكيانية الفلسطينية في حدها الأدنى، ويمنح فلسطين وجودًا سياسيًا على الخارطة الدولية، وخطوة على طريق الدولة، وأداة من أدوات مواجهة المشروع الاستعماري الإسرائيلي في طوره بعيد المدى الذي يستهدف حقوقنا التاريخية والسياسية وهويتنا الوطنية، كما أنها تمثل راس حربة في مواجهة صفقة القرن ومشروع الضم، بما يؤكد أهمية بقائها وليست المطالبة بحلها أو إعادة تموضع دورها في إطار تقديم الخدمات نيابة عن الاحتلال!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد