يحتفل الشباب الفلسطيني بشكل خاص، والشباب العربي بشكل عام، هذه الأيام بنهاية سنة الثانوية العامة أو « التوجيهي ». وهي فعلًا مرحلة توجيهية يتخذ فيها الطالب أو الطالبة قرارًا مفصليًا في الحياة: التخصص الجامعي. حينما تخرجت من الصف التوجيهي في قطاع غزة ، لطالما أردت أن أتخصص في العلوم السياسية، والفلسفة، والتاريخ السياسي. ذهبتُ إلى فرنسا واستطعت الدخول إلى معهد باريس للدراسات السياسية العليا ودرست لسنة واحدة في جامعة ڤيرجينيا الأمريكية كطالب تبادل وتخرجت بدرجة البكالوريوس. وخلال تلك السنوات توصلت إلى عدة دروس، وخلاصات أود أن أشاركها مع الجميع، وخاصة المقبلين على الجامعة.
واحد: رسالة العلم
نصيحتي للشباب العربي هي أن يلبي ثلاثة شروطٍ مهمة جدًا وقت اختيار التخصص الجامعي. هناك ثلاث دوائر يحب أن تتقاطع، وأن تختار التخصص الجامعي الذي تتشارك به الدوائر الثلاث: 1) أن يكون التخصص علميًا بالمعنى الصارم.
2) أن يكون للتخصص مستقبل مالي واقتصادي قوي،
3) أن تكون مهتمًا به ولو قليلًا جدًا.
المشكلة، هي أننا كبرنا على جملة خاطئة جدًا وهي «اختر ما تحب»، وهذه جملة خطرة جدًا لأنك قد تختار تخصصًا جامعيًا وأنت طفل تقريبًا بعمر الـ17 سنة، وقد تكتشف في وقتٍ لاحق أنك لست مهتمًا به بالمطلق حينما تعمقت به والأخطر من ذلك أنك اكتشفت هذا الشيء في آخر سنة قبل التخرج الجامعي ووقتها علمت أيضًا أن هذا التخصص ليس له أي مستقبل مالي إطلاقًا، وفرص الحصول على العمل شبه مستحيلة.
الشيء المفاجئ هنا، والذي ستكتشفه في حياتك أن حتى الجامعات والمؤسسات التعليمية، والتي نكن لها كل احترامنا أصبحت أدوات وطرقًا لدر ونهب أموال الشباب والشابات، وأنهم يستدرجون الطلاب والطالبات بتسمية درجاتٍ تعليمية بمسميات كبيرة وجذابة وغير واضحة تجعلهم يظنون أن اقتناء هذه الدرجة أساسي للنجاح ولتحقيق حلمهم. هذا بالفعل شيء مخزٍ وفاضح حقًا. ولذلك عليك بالتحري جيدًا أن التخصص الذي تريده علمي وكنتيجة، المجتمع وسوق العمل سيحترمه، وإذًا سيكون له مستقبلٌ ماليٌ قوي، والذي أعنيه بعلمي هنا أنه يستخدم الرياضيات، والطرق والمعادلات الرياضية والإحصائية، والطريقة العلمية كما وضع أسسها أرسطو وابن الهيثم للوصول إلى النتائج والخلاصات، كالفيزياء، والكيمياء، وعلم الحاسوب، والهندسة، وعلم البيانات، وأي تخصص يندرج تحت مظلة «ستيم» وهي مختصر لعلم، تكنولوجيا، هندسة، ورياضيات.
STEM: Science, Technology, Engineering and Mathematics
أما بالنسبة للدرجات الجامعية مثل الفنون، أو الأدب، أو تاريخ الفن، أو الفلسفة، أو السياسة حتى، والتي درستها، فهي تخصصات ليست علمية لأنها لا تصل إلى استنتاجاتها بنفس الطريقة العلمية البحتة الصارمة جدًا إلى الخلاصات وتعتمد على تحليل فني نفسي غير موضوعي غير قابل لتجربته داخل مختبر يتبع بصرامة للظروف التي أنت، كباحث، تتحكم بها. لا يمكنك أن تقوم بتجربة على مجتمع بشري لكي تثبت نظرية. نقول في السياسة: قاعدة السياسة الثابتة هي أن هناك استثناءً لكل قاعدة. وقد تكون هناك استثناءات في التخصصات العلمية أيضًا، إلا أن الجسد العلمي في التخصصات العلمية مبنيٌ بشكلٍ صارم، ويمكن إثبات صحته 100 مرة، وأن الاستثناءات نادرة بحق.
ولكن هل هذا يعني أنه يجب أن نتوقف بالكامل عن وضع الفلسفة والتاريخ والسياسة في مناهجنا؟ بالطبع لا. أنا أدعو إلى تغيير نظامنا التعليمي بشكل كامل: وهو وضع الفلسفة، والتاريخ، والعلوم السياسية، كمتطلب إجباري لكل طلاب الجامعة والمدرسة، ولكن فقط كمتطلباتٍ إضافية إلى جانب التخصص العلمي الأساسي؛ لأنه من المهم جدًا للمهندس، أو الطبيب، أو الاقتصادي، أن يكون داريًا بتاريخ حضارته، وأن يكون واعيًا سياسيًا، ولكن الأهم هو أن لا يتخصص في تخصص غير علمي لا يعطيه أدوات حقيقية، أو مهارات تقنية ملموسة، وليس علميًا بحق.
كتب الفلسفة تجعلك تفكر بطريقة أخرى، وأن تسأل أسئلة دومًا عن كل شيء، وتزيد من شكوكك في كل شيء، وتزيد من تفكيرك التحليلي، وهذا جيد، ولكن ستيڤن هوكينغ، اشهر عالم فيزياء في القرن الحادي والعشرين، قال إن الفلسفة خسرت أمام العلم، وأنا أتفق معه بشكل كبير جدًا، وذلك لأن الفلسفة تساعدك على أن تسأل الأسئلة، إلا أن العلم وحده هو من يعطيك الإجابة. سؤال «من أنا؟» مثلًا، هو سؤالٌ فلسفي كلاسيكي وتقليدي سأله البشر لأنفسهم دائمًا والسؤال بقي كما هو. ولكن الذي تغير هو الإجابة العلمية لذلك السؤال بتقدم الأحياء والعلوم والطب والتكنولوجيا. وحتى أسئلة أخرى لم نظن أبدًا أنها قد تكون علمية مثل الحب العاطفي: بإمكان الرياضيات، والإحصاء، تصميم لوغاريتم رياضية قادرة على حساب وتوقع أفضل شريكة عاطفية لك دون محاولة العثور عليها طوال حياتك. إن الحرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسعادة والسعادة البشرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعنى. إن العلم أكثر أداة قادرة على إعطائنا معنى كرجال، أو نساء، بيولوجيًا، أو عرب، أو صغار في السن، أو مرضى، أو أي كان في عالم مليء بالفوضى والمجهول وعدم معرفة الصحيح من الخاطئ والحقيقي من المزيف.
مثالٌ آخر: وهي تخصصات الاقتصاد وعلوم المالية. كانت هذه التخصصات عادية ولا تجني الكثير من الأموال بقدر التخصصات العلمية الأخرى مثل الهندسة، ولكن مع وصول إدارة ريجان الأمريكية، ونشوء مدرسة شيكاغو للاقتصاد، تم إدخال الرياضيات والإحصاء بشكل كبير جدًا على مادتي الاقتصاد وعلوم المالية، وأصبحت هذه التخصصات علمية حقًا لأن النظريات، في معظم الأحوال، ثابتة بشكلٍ صارمة ومنطقية ويمكن اختبارها.
اثنان: المال
تعلمنا منذ الصغر بأن «المال ليس كل شيء»، ولكن ترجمها الجميع بـ«إذًا لا يحب أن أقلق أبدًا بشأن المال» ويومًا ما حينما تكبر ستتعلم أن أولى مقومات السعادة حقًا هي المال. هناك نظرية في علم النفس، تخصص حتى الآن حوله الكثير من الجدل حول إذا ما كان علميًا أم لا؛ لأن الإنسان يدرس نفسه، وذلك يجعله معرضًا لإنحيازاته، والانحياز الفكري الباطني، أو المباشر هو العدو الأول للعلم، وتقول النظرية إن هرم الاحتياجات، وهو هرم ماسلو لتحقيق السعادة، يحتاج الإنسان أن يلبي كل طبقة فيه للوصول إلى أعلى درجات السعادة. أولى تلك الدرجات هي المال الضروري لتلبية قضاء الحاجة، الجنس، التكاثر، المأكل، والمشرب، والمأوى، والأمن، وعندما يؤمن هذه الضروريات الأساسية، يحاول تلبية الطبقات الأخرى غير الضرورية. إن اختيار تخصص جامعي، مثل الأدب الإنجليزي، أو لغات أجنبية، أو دراسات الاتصالات، بحسب الكثير من التقرير
والدراسات، أسوأ من أن تتخرج بدرجة الثانوية العامة، ثم تعمل كسباك في مدينة كبيرة، مثل لندن، أو نيويورك، بخبرة عدة سنوات، وتلك طبعًا مهنة مهمة جدًا، وذلك لأنك تكتسب مهارات حقيقية.
ثالثًا وأخيرًا: حماية الدولة
الوصفة ليست سحرية أو سرية وهي كالتالي: تستثمر الدولة في نظام تعليمي قوي ويتخرج معظم الطلاب فيه بتخصصات علمية مثل علم الحاسوب، والهندسة، والاقتصاد، والعلوم المالية، وهندسة المعلومات، وعلم البيانات، والذكاء الاصطناعي. حينما يتخرج الطلبة، يؤسسون شركات مربحة لأنهم أذكياء، ولأنهم استثمروا جيدًا بالأدوات العلمية التي اكتسبوها ووظفوها لخدمتهم. هذه الشركات في دورها توظف مئات آلاف الأشخاص في الدولة والمجتمع وبدورهم يجنون الكثير من المال. الشركات هذه تجني الكثير من المال بتصديرها للمنتجات.
الدولة تزداد ثراءً عندما تقر الضرائب على الشعب والشركات المنتجة. وأيضًا يجب أن يكون هناك حكم قانون ديمقراطي عادل وصارم لكيلا تُسرق الأموال العامة. تجني الدولة ثروة كبيرة وتعيد استثمارها في التعليم والقطاع الصحي وأهم شيء في جيش عسكري قادر على حماية الدولة. إذًا: نظام تعليمي، يد عاملة معلمة جيدًا بالعلم، اقتصاد قوي، حكم قانون وديمقراطية ومنع الفساد ونهب الأموال العامة، ثراء، جيش قوي.
وأركز هنا على جيش قوي لأن وجود الجيش يحمي الدولة من أي اعتداء خارجي، وإيمانًا أن هذا العالم يتبع المدرسة الواقعية للعلاقات الدولية. هناك مدرستان في العلاقات الدولية: المدرسة الليبرالية المثالية وهي مدرسة تفسر الظواهر الدولية على أن العالم مكون من دول تريد الخير دائمًا، وأنها متعاونة دائمًا، وأن المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة أساسية لتقدم العالم، وأن القانون الدولي صارم وحقيقي ومُطبق. أم المدرسة الواقعية: تؤمن بأن الدول تتبع مصالحها، وأنها ستستعمل أية أداة لها للوصول إلى هدفها حتى وإن كانت تلك الأداة عسكرية لكي تنجو. فبرأيك أيها القارئ، في عالم تتواجد فيه حروب قتل فيها تقريبًا 100 مليون شخص، ومليون مسلم محتجز في مخيمات الصين، واحتلال الغرب واستعماره لدول عربية لسنوات طوال وفلسطينٌ محتلة لحتى هذا اليوم تسرق وتنهب، فهل هذا عالم ليبراليٌ مثالي حقًا؟
دولة الاحتلال مثلًا أدركت هذا جيدًا ولذلك طورت من إحدى جامعاتها وهو معهد تخنيون؛ لأن يكون من أفضل الجامعات في العالم في مجال التكنولوجيا والعلم وبالفعل خرج هذا المعهد أفضل عقول الاحتلال المجرم ووظف التقدم العلمي لمصلحته، وجعل الدول الأخرى أن تتغاضى عن جرائم الاحتلال في سبيل حصولها على تكنولوجيا الاحتلال. واليوم وحدة الاستخبارات الإسرائيلية السيبرانية 8200 تعتبر من أخطر الوحدات العسكرية التكنولوجية في العالم كله. واليوم تحكم الولايات المتحدة الأمريكية العالم؛ لأن لديها أكبر شركات التكنولوجيا كـ«آبل، و«جوجل»، وسبيس إكس» وغيرهم والذين لديهم تعاون متين جدًا مع الجيش الأمريكي، وقلة تعلم أن أول من استثمر في شركة «جوجل» كانت «وكالات الاستخبارات الأمريكية (CIA وNSA)».
المفاوضات ليس لها أي معنى عندما لا تكون هناك قوة عسكرية تحمي وجودها.
لماذا تريد الذهاب إلى المفاوضات حينما تعلم أنك أقوى من عدوك؟ القوة العسكرية في التاريخ السياسي هي أقوى أداة لفرض إرادتك السياسية على عدوك وتشكيل الأمر الواقع الجيوسياسي. ولكن الأهم من ذلك هو أنك لن تصل إلى قوة عسكرية ضخمة بالأدب الإنجليزي، أو الفلسفة، بل بالهندسة والتقدم التكنولوجي والمعلوماتي. دول عديدة أدركت ذلك مثل الصين، والتي بنت نفسها من دولة فقيرة جدًا إلى دولة علمت تقريبًا 100 مليون صيني في الخمسين سنة الماضية في تخصصات علمية ورياضية، واليوم نرى النتيجة جيدًا. وأدركت أمريكا جيدًا أهمية هذه التخصصات بعد فوزها في الحرب العالمية الثانية ووقتها قرر الجيش الأمريكي إنشاء داربا، وهي العقل العسكري الأمريكي «العالم المجنون» وهي خلف كل تقدم تكنولوجي للجيش الأمريكي ومنهم منظومة تحديد الموقع التي نستخدمها كل يوم، والإنترنت أيضًا DARPA.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كتب ڤانيڤار بوش، مهندس عسكري أمريكي خلال الحرب ورئيس هيئة البحث العلمي للدفاع ومكتب التدقم العلمي والتطوير الوطني، رسالة إلى الرئيس الأمريكي وقتها قائلًا: «إن أهم الأسباب في فوز الحرب هو التقدم التكنولوجي والعلمي، مثل تقنية الرادار، والتي سمحت للقوات بهزيمة الدولة النازية المجرمة، وطلب من الرئيس أن يستثمر بهذه التخصصات لكي يضمن مصير ونجاة وسيطرة أمريكا على العالم كله».
أيها الشباب، اختر تخصصًا علميًا، له مستقبل ماليٌ قوي، يعطيك مهارات تقنية ملموسة ومهتم به ولو بقليل لكي تساعد نفسك، مجتمعك، دولتك وشعبك.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية