مثل كل عام ملأت الفرحة الشوارع، وعمت الاحتفالات كل النواحي، وانطلقت مواكب سيارات الناجحين تطوف الميادين والشوارع وتملأ الدنيا صخباً، وحتى ساعات الفجر وعلى مدار أربعة وعشرين ساعة ظلت الألعاب النارية تفرقع وتضيء في بهجة مستعادة ومشتهاة أيضاً. ومثل كل عام يأخذ الحدث مداه وتندفع اللحظة حتى آخر منزع في السهم حتى تكتمل، فتكتمل الفرحة ويكتمل العرس، لا شيء ناقص ولا شيء يختفي. العادات والسلوك والممارسات هي جوهر المواسم السنوية التي يقوم الناس بإتقان استعادتها بكل فرح في كل مرة.


ومثل كل عام ثمة أوائل يحتفل بهم وتتلى أسماؤهم برهبة خاصة ونشوة مختلفة، وثمة ناجحون يفرح لهم الأهل والجيران ويحتفل بهم كل من حولهم. وأيضاً خلال كل ذلك يتم وضع الضغينة والبغضاء جانباً فالتهنئة واجبة على الجميع لمن يستحقها، ومشاطرة الفرح جزء من اكتماله، فالفرح جماعي ودائماً يزداد كلما ازداد عدد الفرحين بالمناسبة. ومثل كل عام تأتي نتائج الثانوية العامة بعد انتظار وانتظار وبعد رهبة خاصة وبعد لحظات ترقب مقلقة لا يسلم منها أحد حتى أكثر طلاب الثانوية اجتهاداً، فالكل قلق ومتوتر حتى يقرأ اسمه ورقم جلوسه وعلامته. لا أحد يمكن أن يكون متأكداً من شيء. ثمة رجفة خاصة لهذا الامتحان الأكثر فتكاً باستقرار وطمأنينة الطالب، ومثل كل عام وما أن تظهر النتائج حتى ينشغل الناس بالناجحين ويحتفلون بهم بما يليق بكل ما بذلوه من جهد حتى تصبح فرحتهم ممكنة.


ومثل كل عام مر العام الدراسي وانتهي بكل ما حمله من توقعات وما صاحبه من متاعب وصعاب وما مر به الطلاب من قلق وانتظار، وما كابده المعلمون والقائمون على التعليم من مشقة من التأكد أن كل شيء سيسير على ما يرام لأنه يجب أن يكون تاماً كاملاً بالمعني المهني. ثمة مشاكل وثمة لحظات صعبة ولكن دائماً الأساس هو إيجاد الحلول. ومر العام كما مر الذي قبله وكما مرت أعوام صعبة خلال سنين العمر المختلفة وفي المحصلة نجح الناجح وظل ينتظر من ينتظر إعادة بعض المواد، ومن لم يحالفه الحظ فهذه ليست نهاية المطاف ولا هي طريق مغلق لا يمكن عبوره إلى مساحات أكثر رحابة. المؤكد أن ثمة فرصاً أخرى وثمة حياة أخرى تنتظر وليس على المرء إلا أن يحاول مرة أخرى موقناً أن النجاح حليف المجتهد.


ومثل كل عام أيضاً وما أن تظهر النتائج ويرتفع السكري عند الكثيرين من كثرة تناول الحلويات والشوكولاتة، وفيما المهنئون يتبادلون التحيات والابتسامات والأمنيات، يكون الطلاب أو الطالبات ينظرون في بقية خارطة الطريق التي رسموها لأنفسهم حيث ستبدأ الحياة الجامعية، ماذا سيدرس؟ وأين؟ والإمكانيات والفرص والمنح. أسئلة كثيرة لا تقل صخباً عن المفرقعات التي تظل تملأ السماء ولا عن صوت أبواق السيارات تجوب الشوارع معلنة استمرار الفرحة واكتمال البهجة.


وربما ليس كمثل كل عام فإن لهذه الفرحة مذاقاً مختلفاً بكل ما في الاختلاف من مدى، فهذا عام «ال كورونا »، عام الوباء والجائحة وعام الحجْر المنزلي وقلة الحركة وانعدام الاختلاط والتواصل وقلة المناسبات الاجتماعية، فلا رمضان كان «رمضاناً» فعلاً بطقوسه اليومية باستثناء الصوم والصلاة والعبادة الصادقة ولا العيد كان عيداً كما يمكن لأعياد الأطفال والفتيان أن تكون، فالحياة كانت حياة أخرى وربما مليئة بضيق الخلق والتذمر والإحباط في لحظات. فرضت الجائحة شروطها على الحياة وصبغتها بصبغتها فاختلف كل شيء فيها، وتم تكييف كل شيء وفق معطيات اليوم واليوم الذي يليه. هكذا فإن هذا العام ليس كمثل كل عام، ومختلف بكل امتياز.


وليس كمثل كل عام فإن الاحتفالات هذا العام كان أكثر وأشد والمفرقعات أعنف وضوؤها أكثر لمعاناً في السماء. ثمة ما كان يقترح أن الفرحة كانت أكبر، والبهجة أعم، أو أن التعبير عنهما كان أكثر وضوحاً وربما بقصد. فالطالب المضغوط نفسياً ومعنوياً والذي تحمل ما تحمل من تبعات الإجراءات التي اقتضت منه أن يدرس ويتابع عبر منصات الإعلام المختلفة بقية دروسه وأن يظل متوتراً حتى اللحظة صفر قبل الامتحان، كان عليه أن يتحمل الألم ويظل حبيس المنزل. صحيح أن هذه قد تكون فرصة حتى يدرس أكثر ولكن الضغط الاجتماعي داخل البيت لم يكن ليجعل وجود الجميع فيه فرصة لطالب التوجيهي حتى يدرس أكثر. وربما مراكز الأبحاث يمكن لها أن تزودنا بالكثير من المؤشرات حول العنف الأسري خلال الحجْر وظهور بعض السلوكيات الجديدة، وهذه بالضرورة ذات بعد عالمي فالجائحة عمت جميع البلدان. من هنا لم تكن الفرحة مثلما كانت كل عام.


كان العام مختلفاً وكانت الفرحة مختلفة، فثمة حاجة للتنفس وللتعبير عن الفرحة بطريقة مضاعفة من أجل أن نتغلب على ما عانيناه من ضيق خلق وبقاء في المنزل ومتابعات يومية للتقارير حول الوضع الصحي. بعبارة أخرى كانت هناك حاجة ماسة للفرح، وللفرح الحقيقي. من هنا كان لا بد من التعبير عن هذا الفرح بطريقة مبالغة. وعلى ما انطوى عليه هذا من كسر للكثير من الواجبات الصحية فإن الفرح أيضاً له ضرورياته.


وربما كان هذا العام مختلفاً بالنسبة للفرسان الحقيقيين الذي جعلوا هذه اللحظة ممكنة من معلمين ومشرفين ومراقبين ولجان ودوائر وطواقم الوزارة، فلولا الجهد الاستثنائي الذي بذلوه لما كانت هذه الفرحة أن تكون بهذا الشكل. يوماً ما لا بد من أن يتم ذكر بعض تلك التفاصيل التي كانت طواقم مختلفة تعمل عليها ليل نهار متابعة من المعقم وصنبور الماء حتى تأمين الامتحانات والأوراق والإجابات والمتابعات والتصليح والتعميم. لذا كان للفرحة طعم خاص فنحن شعب نجعل من المستحيل ممكناً وننهض من رماد العنقاء. ولأننا سنكون يوماً ما نريد فلا بد أن ننجح دائماً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد