مقالي هذا ليس رداً على مقال الدكتور سلام فياض ، وإنما هو محاولة لإغناء النقاش حول الأفكار القيّمة والمسؤولة التي تضمنها المقال.
يسرد  فياض بصورة متماسكة ومُقنعة العلاقة التي تحولت في الواقع السياسي الفلسطيني إلى علاقة صميمية بين برنامج المنظمة في عام 1988 وبين الانتفاضة الوطنية الكبرى في عام 1987، ثم مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو التي غيرت مسار الالتفاف الجماهيري حول المنظمة.
وينطلق الدكتور فياض من واقع الفشل أو الإفشال لإمكانية قيام دولة فلسطينية على مدار أكثر من ثلاثين عاماً من المحاولات التي تلت الانتفاضة الوطنية، ومن انطلاق برنامج عام 1988، ليخلص إلى ضرورة المزاوجة بين خيارَي: الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين التاريخية، «وبما يكفل دستورها المساواة التامة لسائر مواطنيها، ودونما أي تمييز بينهم على أي أساس كان»، وبين خيار دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران بإقرار واعتراف إسرائيلي وفق قرارات الشرعية الدولية بما في ذلك حق العودة (194)، والحق في تقرير المصير.
لا يرى الدكتور فياض ضرورة لحسم الأمور [في هذه المرحلة] باتجاه خيارٍ بعينه، ويرى أن بالإمكان تجاوز ذلك مؤقتاً، وإلى حين نضج وإنضاج الظروف لحسم الخيار الأفضل، وان كل فصائل العمل الوطني مطالبة بالانخراط في منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن يتم إصلاحها وتمهيد الطريق لدخول الكل الوطني فيها، وبالتالي يصبح العمل الوطني الموحّد ضد «الضم» وضد المشروع الصهيوني لفرض الحل الذي يكرس تصفية أهدافنا وحقوقنا الوطنية.
باختصار، فإنه يمكن للفلسطينيين التوافق على هذه المزاوجة إلى حين اتضاح الأمور لاحقاً، ويمكنهم أن يعيدوا وحدتهم للتصدي للأخطار المحدقة بهم دون حسم الخيار من هذه اللحظة، وبكفاح وطني لا هوادة فيه، هذا ما فهمته ملخصاً في مقال الدكتور فياض.
لا يمكن إنكار واقع ما قامت به إسرائيل لمنع قيام دولة فلسطينية، وصعوبة أن يكون «حل الدولتين» مطروحاً وكأنّ شيئاً لم يكن.
نعرف جميعاً أن هذا الحل قد تناقصت فرصه، وكثرت العراقيل أمامه، وتكرّست في الولايات المتحدة إدارة أميركية أصبحت جاهزة للانقضاض عليه، وتحويله إلى حل كاريكاتوري مبهم، يعطي لإسرائيل مكانة «قانونية» تاريخية جديدة للتحكم في كل مفصل من مفاصل هذا الحل.
ومع مشروع «الضمّ» الإسرائيلي يتحول هذا «الحلّ» إلى ما يشبه الطوباوية السياسية.
قبل عدة سنوات كان لمجموعة من الكتّاب والنشطاء الفلسطينيين جلسة مع السيد أبراهام بورغ قال فيها: أيها الأصدقاء، الواقع الإسرائيلي يقول Game Over لـ «حل الدولتين»، أما الواقع الإقليمي والدولي فلا يقوى على صد السياسة الإسرائيلية.
أقصد أن مقاربة الدكتور فياض لا تأتي من فراغ، وأن ثمة ما يبرر ضرورة تحضير الشعب الفلسطيني لنفسه باتجاه خيارات أخرى وأساساً نحو خيار الدولة الواحدة.
تكمن المشكلة هنا في أن «حلّ» الدولة الواحدة، مهما كانت ديمقراطية هو حل طوباوي بامتياز، وذلك بالنظر إلى الواقع الذي أدى إلى فشل أو إفشال الدولة الفلسطينية من خلال «حل الدولتين».
وما أراه هنا هو «حل الدولة الواحدة» بكل المقاييس التي تعتمد على الواقع القائم، وعلى نفس هذا الواقع في المدى المنظور ليس سوى فرصة لإسرائيل لتكريس «حكم ذاتي» منقوص ومقيّد ومحاصر، يستحيل تحوله إلى دولة مستقلة، وخصوصاً، إذا أقدمت إسرائيل على «الضمّ»، وإذا ما نالت على موافقة ومصادقة إدارة الرئيس ترامب عليه.
عندما نطرح «الدولة الواحدة» [الديمقراطية مستقبلاً] فهذا يعني أن إسرائيل أصبحت في وضع «يمكّنها» من الإيغال في مصادرة الأرض، ومحاصرة السكان، وحرمانهم من كل حقوقهم، وتحويل حياتهم إلى جحيم يسهل من خلاله ممارسة «الترانسفير» ضدهم في كل لحظة مناسبة تختارها إسرائيل.
لا يجوز ـ كما أرى ـ أن يكون «حلّ» «الدولة الواحدة» هدفاً في ظل معرفتنا للواقع القائم، ولهذا الواقع في المديات المنظورة. يمكن أن يكون مسار تطور الأحداث من الزاوية الموضوعية هو الذهاب القسري وبصورة مباشرة إلى «دويلات» فلسطينية، بقيادات «فلسطينية» تقبل بهذا «الواقع الجديد» الذي ستحاول أن تكرسه إسرائيل.
أقصد أن لا علاقة سببية موضوعية بين فشل حل الدولة المستقلة وبين التطور الموضوعي والحتمي إلى «حل الدولة الواحدة».
قد يتحول «حل الدولة الواحدة» إلى نتيجة.. ولكن هذه مجرد إمكانية من بين إمكانيات أخرى، ولهذا لا يمكن أن تكون هدفاً نعمل له ونسعى إليه، لأنه ببساطة هو واقع قائم في حالة إنهاء السلطة الوطنية، وهو واقع قائم بحكم أن السلطة الوطنية القائمة ليس لها أي ولاية فعلية على الأرض، وبالتالي فإن نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وضد الاستيطان، وضد السلخ والاستيلاء (الضمّ)، وضد هدم البيوت والسطو على الموارد  والثروات سيستمر من خلال عملية كفاحية تطول أو تقصر يكون عنوانها التمسك بالحقوق والصمود على الأرض.
إذاً، التمسك بـ «حل الدولتين» أمامه فرصة سياسية أكبر من فرصة «الدولة الواحدة»، لأنه موضع توافق دولي وإقليمي إلى حد كبير أصبح موضع إجماع فلسطيني.
الواقع يقول إن هذا الحلّ لم يعد متاحاً أو يكاد.
هنا يطرح السؤال الجوهري: إذا كان «حل الدولتين» قد «تجاوزه» الواقع، وإذا كان «حل الدولة الواحدة» ليس هدفاً بحد ذاته، فما هو الحلّ إذاً؟
ما هو البرنامج الذي يمكن أن يحلّ محل «حل الدولتين»، ويكون له أساس قانوني في الشرعية الدولية، ويمكن أن يشكل مساراً جديداً يستجيب لفشل «حل الدولتين» أو إفشاله؟، وأن يكون متفهماً من الشعب الفلسطيني أولاً، ومن المجتمع الدولي بما في ذلك المجتمع الإقليمي؟
الحلّ الأمثل كما أرى هو العودة إلى قرار التقسيم. لماذا؟
أولاً: لأن هذا القرار يمكن أن يحلّ بصورة عملية ومقبولة قرار حق العودة إلى الدولة الفلسطينية بحدود هذا القرار.
ثانياً: هذا القرار يمكن أن يكون الحل المناسب الوحيد لقضية القدس . وهنا نحن أمام إمكانية اعتماد نص القرار حول الوضع الخاص للمدينة، أو أن يتم فعلاً تحويلها إلى عاصمتين لدولتين على أن تكون المنطقة الدينية (داخل الأسوار) هي التي يكون لها الوضع الخاص.
ثالثاً: إذا تضمن القرار الجديد للتقسيم كقرار معدل فإن قضية الأمن التي تتذرّع بها إسرائيل دائماً ستكون محلولة ومتوفرة على أساس العلاقة الفيدرالية أو الكونفدرالية بين الكيانين أو الدولتين.
رابعاً: يتضمن قرار التقسيم حدوداً واضحة وتقاسماً للأرض والموارد محدداً وملموساً، ولا نصبح بحاجة إلى أي تفاوض سوى على مستقبل العلاقات بين هذين الكيانين طالما سنكون قد «اتفقنا» على الحدود والقدس وحق العودة والموارد والعلاقات الثنائية.
أنصار الشريعة اليهودية، وأنصار الشريعة الإسلامية سيمانعون هذا الحل، والمتطرفون على الجانبين من خارج إطار أنصار الشريعتين سيعترضون على هذا الحل، هذا كله صحيح. لكن هؤلاء موجودون في إسرائيل منذ أكثر من سبعين عاماً، وموجودون عندنا بتاريخ أقل أو أكثر، ولا ضير في ذلك إذا كانت اعتراضاتهم ومعارضتهم دستورية وفي إطار ما يسمح به القانون.
المجتمع الإسرائيلي ـ كما أرى ـ سيفكر في الأمر مليّاً، خصوصاً وأن قرار التقسيم يخلصهم من هاجس حق العودة ومن هاجس الأمن، والمجتمع الدولي سيتفهم هذا الأمر باعتباره الحلّ التاريخي او المساومة التاريخية.
أما المجتمع الفلسطيني فلن يكون معارضاً لهكذا حل لأنه وافق على إقامة دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين التاريخية.
ما أقوله: لماذا لا نذهب باتجاه البحث عن مقاربات من هذا النوع؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد