مهرج طِبي من غزة
بالصور: طبيبُ الضَحِكات 'مُحمد'.. 'جرعة حُب' في قلوب أطفال السرطان
عقارب الساعة تقترب من الحادية عشرة، أسرع محمد الجوجو الخطى بين ممرات مستشفى الرنتيسي لعلاج الأطفال مرضى السرطان ب غزة ، متجهًا نحو غرفة خالد.
لقد وفّى اليوم بوعده الذي قطعه له في آخر مرةٍ التقيا فيها، أحضر له "السيارة البلاستيكية" التي لطالما اشتهى الحصول عليها. فتَحَ الباب بكل قوته، فاردًا ذراعيه لحضنٍ كبير، لكنه لم يجد إلا السرير مرتبًا وفارغ!
كانت الغرفة باردة جدًا دون دفء ضحكات الصغير، اهتزّ قلبه فجأة، ومضى نحو الاستعلامات يسأل، ليأتيه الرد كما الصاعقة: "لقد توفي البارحة".
حاول محمد إخفاء دموعه، وهو يلتقط عن الأرض "السيارة" التي سقطت من هول الصدمة، واتجه دون أن يشعر إلى غرفة خالد الفارغة، جلس هناك وقتًا طويلًا، يستذكر ملامح وجهه الشاحبة بسبب جلسات الكيماوي، وصوت ضحكاته الخافتة، وحتى مداعباته الأخيرة، ثم صمت للحظاتٍ وكأنه يحاكي روحه.. قال له: "لقد وفيت بالوعد يا صديقي"، في تلك اللحظة تملّكه شعورٌ بأنه يريد أن يترك كل شي، كل الناس، ويفرّ بعيدًا ليحزن على روح صديقه الصغير وحده.
استجمع محمد قواه، وجرّ قدميه جرًا، لقد أصبحت حقيبة الألعاب التي اعتاد حملها وتوزيعها على المرضى الأطفال هنا أثقل على قلبه من جبل. "بابا نويل المستشفى" كما أسماه أحد المرضى هنا، لم يعد قادرًا على جرّ نملة، لولا أنه اضطر لتصنّع ابتسامةٍ عندما سأله طفلٌ في الغرفة المجاورة: وين خالد صاحبي؟ بدي ألعب معاه، ليرد بثباتٍ مفتعل: "خالد راح على بيته يجيب شوية أغراض".
يعقب محمد: "عندما أبدى الطفل ارتياحًا لردّي، سألتُ نفسي، كيف لو عرف الحقيقة؟".
طبيب الضحكات
في ذلك النهار رافقت روح خالد محمدًا في حلقات الفرح التي حاول –رغمًا عنه- تحقيق مبتغاها داخل المستشفى: مساعدة الأطفال نفسيًا على تجاوز مرحلة الألم أثناء تلقي العلاج. بسرعةٍ ارتدى زي "المهرج"، وانكبّ يطبب ضحكات أصدقاء "خالد" من مرضى السرطان هنا.
محمد البالغ من العمر (25 عامًا)، يؤدي منذ تطوعه بمؤسسة "بسمة أمل" لرعاية الأطفال مرضى السرطان في قطاع غزة دور "المهرج الطبي" (أي المختص بدعم المرضى نفسيًا، ومساعدتهم على تجاوز مرحلة الألم خلال جلسات العلاج)، ضمن فريقٍ مكون من 7 أشخاص.
تعدُ "وفاة خالد" بالنسبة للفريق، من أبسط المواقف التي مروا بها –على ما تحمله من وجعٍ وحرقة- يعلق محمد: "نرى ونسمع هنا، ما لا يمكن أن يمر عاديًا في حياتنا، عبارات الأطفال العفوية التي تحمل غصة عظيمة، وخوف الأمهات، وارتباك الآباء كلما سمعوا أنين أطفالهم على أسرة المرض".
ورغم أنه تلقى العديد من الدورات في كيفية التعامل مع المواقف الحرجة خلال جلسات التهريج الطبية، على يد "المهرج" من بيت لحم سرحان محاميد، وعرف كل ما يجب أن يعرفه عن جلسات التحكم بالعقل والجسم، وعلم النفس، وسيكلوجيات الطفل، ومراحل الإسعاف الأولي النفسي.. إلا أنه يتمتم: "يبقى لوقع الموت في القلب هيبته".
دليل في الطريق
بدأت حكاية محمد عندما كان في السادسة عشرة من عمره، عندما تعلق بمهنة أبيه الذي كان يُعلم فن "البهلوان" و"الخدع البصرية" في محاولةٍ منه لخلق فرص عمل جديدة داخل قطاع غزة، بعد أحداث الانقسام الفلسطيني الداخلي عام 2007م.
لقد أتقن ذلك الفن، وصار فردًا من أفراد فرقة أبيه، وفي يومٍ سمع والده يتحدث عن معاناة أطفال السرطان اليومية خلال تلقي العلاج، فقرر دونما تردد التطوع لمدة يومين في الأسبوع لخدمة أولئك الأطفال البالغ عددهم في الوقت الحالي (640) طفلاً حسب آخر إحصائية لعام (2019م).
"كان طلبًا من طفل" أيقظ في روح محمد طاقة البحث، حين تمنى أن يتوفر "مهرج طبي" كالموجود في مستشفيات الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948م، لقد عرف "محمد" أن هذا الفن لا يعني ارتداء أنفٍ أحمر ورسم فمٍ كبير، "بل هو علمٌ واسعٌ متفرع"، استعان من أجل الوصول إلى فهمه التام بأصدقائه من الخارج، حتى أنه ذهب إلى حيفا لأخذ دبلومٍ متخصص في التعامل مع الأطفال المرضى. وهذا ما حدَث: لقد صار محمد قادرًا على مساندة الطبيب وذوي الطفل المريض في آنٍ معًا، عندما يرغمه بتصرفاته المدروسة على الانخراط في اللعب معه وتلقي العلاج بهدوء، بعد رفضٍ قاطع لأي انصياع.
الأمر أكبر من مجرد "إضحاك طفل" يؤكد محمد، محاولًا تذكر عدد الدورات التي تلقاها لتحقيق شغفه، ويضيف: "الحفاظ على مساحة آمنة لضمان سلامة الطفل، على رأس الأولويات، وعدم تحريك المحلول أو الجهاز المثبت أحيانًا داخل جسد الطفل ليس بالأمر السهل، خاصةً أثناء اللعب معه، ليطبق بذلك مفهوم العلاج عن طريق الضحك، الذي يخفف عن المريض الشعور بالقلق والإحباط، ويعزز مناعة جسمه، ويخفف من المشاكل التنفسية لديه".
تحضيرات مختلفة
محمد صاحب الجسد الضخم، الذي يخيف بعض الأطفال للوهلة الأولى، يستعد لأداء مهمته كمهرجٍ طبيٍ بشكل مختلف، فيرتدي زي الطبيب بدلًا من تلك البزة الملونة، ويبعثر الألوان المبهجة على ردائه الأبيض لا على وجهه "كي لا يخيف الأطفال"، ثم ينزع تلك الكرة المطاطية الحمراء "نافخ الهواء" في جهاز الضغط الذي يعرفه الأطفال في "الرنتيسي" جيدًا، ويضعها على أنفه، مشهرًا إبرته الملونة التي يضحك الصغار كلما رأوها، ومحلوله الذي تزينه فراشه كبيرة بألوان زاهية، تجذب الأطفال، وتغير الصورة النمطية لكيس المحلول الذي يعيشون معه "لولا بعض لحظات الفرح" عذابًا لا يمكن وصفه.
يروي محمد مشهدًا عن طفلٍ، دخل إليه الطبيب ليأخذ منه عينة، إلا أنه أبى بعد أن انتفض خوفًا. يعلق: "لحسن الحظ، كنتُ موجودًا، كان الطفل خائفًا، رافضًا محاولات الطبيب في إدخال ذلك الجسم المدبب في جسده الصغير المتعب، وقتها، رسمتُ للطفل مشهدًا مسرحيًا بالبالون الذي يحمل شكل نحلة، فقلتُ له بصوتٍ طفولي: بعد ما طارت النحلة، إجت تاخد العسل من الوردة"، بالتزامن مع ذلك تمكن الطبيب من أخذ العينة، والطفل منتبه لي تمامًا، رغم الألم الذي ارتسم على وجهه".
طلب غريب
لا ينسى محمد ذلك الطفل الذي كان يجري خلفه يومًا في أحد ممرات المستشفى، ليباغته بعبارةٍ بعد أن التقط أنفاسه: "عمو، نفسي أصير متلك". حينها أومأ الجوجو برأسه راسمًا ابتسامة "قبول"، رافعًا سبابته بقوله: "بس بشرط، لازم تخلص كل جلسات الكيماوي بالأول".
اليوم يضم فريق محمد عددًا من مرضى السرطان، الذين تلقوا العديد من التدريبات حول فكرة "التهريج الطبي"، يعملون للتخفيف عن أنفسهم وعن المرضى أمثالهم أيضًا، ومن بينهم "ذلك الطفل في الفقرة أعلاه، صاحب الملامح البريئة".
هذا الشاب (محمد) يملك يقينًا مطلقًا، بأن الحياة تتسع لكل ما يرغب المرء في القيام به، "فمن يُريد، يستطيع" كما يقول دائمًا لأصدقائه. عملهُ كمهرجٍ طبي، لم يمنعه من العمل كمدربٍ لكمال الأجسام، بعد أن أنهى دبلوم التربية الرياضية، بينما تتنامى اليوم ضمن قناعاته خطوته بدراسة الإعلام، التي جعلته بوازي بين التطوع في المؤسسة، وضغط التكليفات الجامعية.. تحت أي حالٍ من الأحوال "ترميم ضحكات أولئك الأطفال أولوية.. بل هي سبب التوفيق الدائم" على حد تعبيره.
ملاحظة : القصة، مخرج دورة تدريبية عقدتها مؤسسة بيت الصحافة بعنوان: (كتابة القصة الصحفية).