يُروى أنَّ حواراً قد دار بين كاتبين بارزين، ينتميان إلى قبيلتين مختلفتين، كانتا على عداءٍ شديدٍ بينهما في زمنٍ سابق، ناتجٌ عن حربٍ قد دامت بينهما بضع سنين، أُزهقت فيها أرواح الكثير من الرجال قبل أن تُطفأ نارها ويخمد لهيبها، سببها خلاف حدث بين شيخي القبيلتين في نهاية سباق بين ناقتيهما، فقد وصلتا إلى خط النهاية متحاذيتين، فزعم كلٌ من الشيخين أنَّ ناقته هي التي فازت بالسباق، وتطور الخلاف إلى شجارٍ فعراك، ثم حرب قبلية التهمت نارها خيرة شباب القبيلتين، وأفسدت خصومتها معاني الإخوّة والمحبة، وقتلت مناكفاتها قيم التسامح والتعاطف... كان الحوار في الذكرى السنوية للحرب، تناولا فيه مساوئ الحرب وآثارها المُدمرة، واستخفا بطريقة تفكير شيخي القبيلتين لتسببهما بالحرب دون مبرر، وحمدا الله على انتهاء الحرب... ومضى الحوار على هذا المنوال حتى قال أحدهما للآخر "لو سلّم شيخ قبيلتك بحقيقة أنّ ناقة شيخ قبيلتي هي التي سبقت لما قامت الحرب"، وسرعان ما ردَّ عليه الآخر غاضباً" ولكنَّ هذه ليست بالحقيقة، فالتي سبقت هي ناقة شيخ قبيلتي"، فاختلفا ثم تجادلا فتعاركا، فشج أحدهما رأس الآخر، فكان ذلك إيذاناً ببدء حرب قبلية ثانية.
هذه قصة حوار قديم في الزمن الغابر، لا زالت تتكرر في الزمن الحاضر، وقد كنتُ شاهداً على حوارٍ جديد لكاتبين مثقفين حدث في ذكرى الانقسام السنوية، ينتميان إلى حركتين مختلفتين ومتخاصمتين، بدأ الحوارُ هادئاً موضوعياً بالكلمات، وانتهى صاخباً حزبياً، كادَ أن يتحوّلَ إلى حوارٍ باللكمات، لولا تدخل الحضور، والحوار أظهر الخلاف بينهما على كل شيء يتعلّق بالانقسام، ابتداءً من التسمية ما بين الحسم والانقلاب، وانتهاءً بتحديد الحركة المتسببة بحدوثه، مروراً بتفاصيل أحداثه الدموية، وتعريف مصطلحاته الجدلية... فاتضح من خلال ذلك الحوار عمق الخلاف بين الطرفين على رواية الانقسام. والصراع على الرواية مدخل متجدد لإعادة إشعال النار من تحت رماد الانقسام، ما لم ينتهِ الانقسام نفسه، وتُكتب روايته بطريقة موضوعية بعيدة عن الذاتية، وبرؤية وطنية مُتحررة من الحزبية، لتكونَ هي الرواية الثالثة للانقسام، وما لم يحدث ذلك سنظل أسرى لروايتين متعادلتين في القوة ومتضادتين في الاتجاه؛ فلا يوجد منتصر يفرض روايته كما في كل الحروب الخارجية والصراعات الداخلية، فلنا أن نتخّيل ماذا لو انتصرت دول المحور على الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؟، ألم يكن جنرالات أمريكا وبريطانيا سيُحاكمون كمجرمي حرب بدل النازيين والفاشيين؟!، وماذا لو فشلت حركة الضباط الأحرار في السيطرة على الحكم بمصر عام 1952؟، ألم يكن الضباط الأحرار سيُحاكمون كخونة ويُسجّل ذلك في سفر التاريخ؟!.
الروايتان الأولى والثانية للانقسام كُتبتا من وجهة نظر أُحادية الرؤية وإقصائية التوّجه، وقطعية الثنائية... لذلك ما أن تلتقيا حتى يتطاير الشرر منهما ليؤجج نار الانقسام، ولعلَّ ذلك ما اتضح من حوار الكاتبين حول رواية كل منهما للانقسام، كما على منصات التراشق الالكتروني التي يقذفُ فيها كثيرٌ من الناس أسوأ ما في باطنهم من سفاهة وفُحش، وأقبح ما في دخيلتهم من بذاءةٍ ودناءة، وأرذل ما في نفوسهم من نقص وعيب، وأردأ ما في أخلاقهم من فجور ورذالة... وكأننا نُعيدُ إنتاج الانقسام كيوم ولدته الخطيئة، وهذا يؤكد أهمية وجود رواية ثالثة للانقسام تخرجنا من حالة التضارب والتجاذب والاستقطاب بين الروايتين... وفي هذا الإطار لا بأس من الاجتهاد لتوضيح بعض النقاط قد تُساهم في وضع ملامح على طريق كتابتها. ولكتابة أكثر عُمقاً لا مناص من العودة بالزمن القهقري لنتبع الزمن الذي زُرعت فيه بذرة الانقسام، وبالتحديد عندما حدث تحوّل في الفكر السياسي الوطني منتصف سبعينيات القرن العشرين عام 1974 عندما تبنى المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة بالقاهرة البرنامج المرحلي للمنظمة المعروف بالنقاط العشر، وفيه أقَرّ "إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"، وأن هذه السلطة سيكون هدفها "استكمال تحرير كامل التراب الفلسطيني".
بعد ما يقرب من عشرين عاماً من تبني البرنامج المرحلي، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو مع حكومة الكيان الصهيوني، مضمونها مختلفٌ تماماً عن البرنامج المرحلي يصل إلى حد التناقض، فقد تبنى البرنامج مرحلية التحرير المنسجم مع استراتيجيات حركات التحرير الوطنية، خلافاً لما حدث في اتفاقية أوسلو فقد تمت بموجبها مرحلية التسوية وفيها " نقل السلطة من الحكومة العسكرية الإسرائيلية وإدارتها المدنية إلى الفلسطينيين المخوّلين بهذه المهمة"، وبذلك تكون السلطة قد أُنشئت في ظل الاحتلال وإجرامه بعيداً عن الكفاح المسلح، وأُقيمت على أرض ما زالت يد الاحتلال عليها وليست مُحررة، وبعقيدة أمنية تُنسق مع الاحتلال وليس مقاتلته، وبسقف تحرير الضفة والقطاع وليس تحرير كامل التراب الفلسطيني... وصولاً إلى "سلطة بدون سلطة تحت احتلال بدون كُلفة " كما وصفها رئيس السلطة والمنظمة. وبوجود السلطة بهذه المواصفات زُرعت بذرة الانقسام الفلسطيني، باختلاف الشعب والفصائل حولها، فكانت السلطة الخط الفاصل بين برنامجين متضاربين ومشروعين متناقضين، وفي ذلك تربة خصبة لنمو بذرة الانقسام.
وإذا كانت السلطة الفلسطينية بوجودها قد زُرعت بذرة الانقسام بطبيعتها ووظيفتها المناقضة لمفهوم السلطة الوطنية الموجودة في البرنامج المرحلي القائم على مرحلية التحرير، فإنَّ تلك البذرة أورقت بدخول حركة حماس للسلطة بعد انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، فقد دخلت سلطة أُقيمت على أساس اتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني، وهي ليست جزءاً من المنظمة - المرجعية السياسية للسلطة – ولا تعترف بدولة الكيان الصهيوني، الطرف الثاني في الاتفاقية-، وهي لا تعترف بمرجعية السلطة القانونية (اتفاقية اوسلو)، وتتبنى برنامج المقاومة المُناقض للبرنامج الذي قاد إلى إنشاء السلطة ( برنامج التسوية )، وفي ظل وجود فجوة فكرية وسياسية ونفسية بين حزبي السلطة – فتح وحماس – فكان من شبه المستحيل ألا يحدث الانقسام في ظل وجود هذا التناقض بين السلطة وحماس، إلى جانب التحول الفكري السياسي لحركة حماس بدخولها إلى السلطة والذي نضج بصورته النهائية بعد عقد من الانقسام عبر الوثيقة السياسية للحركة عام 2017 ليُشكل أبرز تحول بالانزياح نحو البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير، والانزياح نحو توجه الفكر الوطني الفلسطيني، إضافة إلى عامل أساسي وهو الاحتلال المعني بوجود الانقسام مع وجود التدخلات الاقليمية المعنية بمصالحها كان من شبه المؤكد حدوث الانقسام.
ختاماً إذا كانت كتابة الرواية الثالثة للانقسام عمل وطني يؤدي إلى طي صفحة الانقسام الماضية وفتح صفحة الوحدة القادمة، فإنَّ مغادرة محطة الانقسام فعلياً إلى محطة الوحدة الوطنية هو الذي سيساعدنا على كتابة رواية المستقبل الفلسطيني المُشرق، ولا يتم ذلك إلاّ بقراءة كتاب الصمود والمقاومة، لتحقيق أهداف التحرير والعودة والاستقلال، ويومئذٍ يفرح الفلسطينيون بنصر الله وتحقيق وعد الآخرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية