مع انتهاء حجر عيد الفطر ، تكون حكومتنا الرشيدة قامت بكل ما تستطيعه من إجراءات في مواجة "جائحة ال كورونا "، والتي تستدعي التقييم الأمين من حيث ضرورتها جميعا، فعاليتها في المواجهة، وتكلفتها الإقتصادية والإجتماعية والإدارية، ناهيك عن أهمية استخلاص العبر والإستعداد الأمثل لبدء الفصل الثاني من الجائحة، ربما مع نهاية العام.

لقد أعطت الحكومة لنفسها الحق بالتركيز على الجوانب الوقائية من الجائحة، وغالت باتخاذ إجراءات إحترازية غير مسبوقة، ربما ليقينها بهشاشة البنية التحتية الصحية والعلمية والمهنية للسيطرة على انتشار واسع للفيروس. وعلى الرغم من الإلحاح والمناشدات واستغاثة القطاع الخاص والمتضررين، فإن إجراءات الحكومة لم تكن كافية للحد من الأضرار الإقتصادية لإعلان حالة الطوارئ وما تبعها من إغلاق البلاد وتعطيل الأعمال والحد من حرية الحركة، وغيرها من إجراءات، ولم تؤثر كثيراً جهود صندوق "وقفة عز" في تقليص آثار "الجائحة الإقتصادية" المتشكلة.

لقد أصاب الرئيس بإعلان حالة الطوارئ لأول مرة مطلع آذار، وقامت حكومته بما عليها في تسخير حالة الطوارء لخدمة الجهد الوقائي، حيث لم يكن أحد يعلم أو يستطيع تقدير مدى تغلغل وانتشار وشراسة الفيروس، وقدرة القطاع الصحي على المواجهة، والتي تجلت عن انكشاف تام عند وصول أول فوج من الطلبة الدارسين في الخارج وحجرهم في مستشفى اريحا، وما رافق ذلك من سلوك شعبوي عدواني بحقهم. 

ولكن الإجراءات التي ترافقت مع تمديد حالة الطوارئ للمرة الثانية، بالتعمق في تقييد الحركة والنشاط الإقتصادي، راكمت الشلل الإقتصادي في ظل غياب لجنة طوارئ إقتصادية لتقدير أثر الإجرائات الوقائية على الإقتصاد، وبلورة خطة إنعاش إقتصادي.  وبعد أن تبين بالأرقام أن الفيروس في نسخته الفلسطينية خفيف الدم، لم يكن هناك أي داع لاستمرار العمل بحالة الطوارئ الثانية وإعلان الثالثة، وأرجو أن تتحلى الحكومة بالمسؤولية وتلجأ الى تقييم مستقل لمجمل هذه المرحلة، للتاريخ والتحوط والتعلم منها.  ففي نهاية المطاف لا أحد يدعى بأن فلسطين خبيرة بإدارة الوبائيات، فما بلك حين يرتقى الوباء ليصبح  جائحة.

إستعداداً للفصل الثاني من الجائحة، نتوقع من حكومتنا الرشيدة تقبل فكرة عدم قدرتها على فرض إجراءات أحادية قاسية وشاملة للوقاية مستقبلا، نظرا لكم المعلومات التي حصل عليها المواطنون حول الفيروس ومعايشتهم له، والتجارب التي مروا بها، والثمن الإقتصادي والإجتماعي الذي دفعوه.  ويتطلب ذلك لجوء الحكومة الى تغيير آلية العمل، والمبادرة بمد يد الشراكة الحقيقية مع كافة مكونات المجتمع الفلسطيني من مجتمع مدني وقطاع خاص وغيره، والتي يتوجب أن تقوم على التشاور المستمر بين أطراف متساوي الوزن، وأخذ شجون هذه المكونات بالإعتبار، وضمان حقها بالمشاركة في اتخاذ القرار، والعمل معاً بشعار "شركاء بتحمل المسؤولية ... شركاء في القرار ... شركاء في دفع الثمن".

من واقع معايشتي للتجربة، فإنني أرى ضرورة قيام النظام السياسي والحكومة وباقي مكونات المجتمع باتخاذ جميع الإحتياطات اللازمة لاستقبال النسخة الثانية من الفيروس قريبا، بجاهزية مثالية وقدرة على حصر الآثار المتوقعة بحدها الأدنى، حيث ليس أسوأ من البدء من جديد واقتراف نفس الأخطاء في الفصل الثاني.  وبناء على مشاهداتي الشخصية في الفترة الماضية، فإنني أضع المقترحات التالية على طاولة النظام السياسي والقطاع الخاص والمجتمع بشكل عام:

1.   التوسع في مفهوم الوقاية من الفيروس لتشمل الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والمجتمعية، ويترتب على ذلك ضرورة مأسسة الفريق الوطني المكلف بالإدارة الوقائية في مفهومها الشامل، والذي كان مقتصرا على الحكومة وأجهزة الأمن والمحافظين، بحيث يشتمل على فرق تخصصية مفوضة وذات صلاحيات في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والمجتمعية، وعدم اتخاذ قرارات وإجراءات مقيدة إلا بعد دراسة آثارها في المجالات المذكورة.  وبذلك نضمن استدامة الجاهزية لمواجهة أي فصول قادمة من الجائحة.

2.   إعادة النظر بالعلاقة مع القطاع الخاص، وعدم حشره في زاوية المتلقي والممول "وإلا!"، بدلا من الشراكة القائمة عل إقرار جلي بدوره المركزي في تحمل المسؤولية، وحقه المقدس بالحماية. ويتطلب ذلك أن يكون لدوره وآرائه وتخوفاته وزن حقيقي في الجهود الوطنية للوقاية الشاملة.

3.   عدم اللجوء نهائيا الى إعلان حالة الطوارئ وإطلاق يد الحكومة وأجهزة الأمن في إدارة النسخة الثانية، واستبدال ذلك بانتهاج سياسية التريث في اتخاذ القرارات والإجراءات المطلوبة، دون تسرع أو تقييد غير مبرر على المستوى الوطني، وبحيث يستبدل ذلك بإجراءات وقرارت موضعية محصورة ومقننة ومدروسة من حيث أثرها الإقتصادي والإجتماعي بشكل عام، وعند الضرورة القصوى في أماكن محددة فقط.

4.   الدراسة العلمية المتأنية والمدعمة بالأدلة والأرقام ذات المصداقية لسلوك الفيروس فلسطينيا، والتفكير الجدي بانتهاج سياسة "مناعة القطيع"، ويتطلب ذلك الشروع الفوري بتكثيف التدخلات السياسية والرسمية في تحصين القطاع الصحي وإعداده جيدا ليتمكن من إدارة إنتشار الفيروس والتحكم بسلوكه. 

5.   تحمل المجتمع بأفراده ومؤسساته نصيبه من جهود الوقاية والثمن المتوقع، حيث ليس من المعقول الإكتفاء بانتظار الخلاص على يد الحكومة، وإنما المشاركة في منظومة وجهود الوقاية بجدية مطلقة، ووقف كافة المظاهر والنشاطات والسلوك الذي أدى الى ظهور إصابات جديدة حيث لا يجب، مما أدى الى المزيد من قرارات الحجر والدمار الإقتصادي الذي ترتب عليها.  لا بد من تحمل المواطنين مسؤولياتهم والتعاون المطلق مع الفريق الوطني للوقاية، وتعديل سلوكهم ليكون حاضنة أساسية للنجاح في هذه التجربة.

6.   منح أولوية مطلقة للوقاية الإقتصادية، بما في ذلك تشكيل فريق إقتصادي مستقل ومتنوع وشامل للاعبين من القطاعين العام والخاص بأكثرية من القطاع الخاص، تكون مهمته إعداد خطة إنعاش إقتصادي شاملة، وتحديد سبل تمويلها، وآليات تنفيذها، وبحيث تصدر كقرار بقانون لضمان التزام الجميع بواجباته في تنفيذها.

7.   تخصيص الموارد الكافية لتأمين الجاهزية الشاملة في القطاع الصحي، بما في ذلك الإستثمار في توفير مستلزمات الكشف والوقاية والعلاج في القطاع الصحي في كافة المشافي العامة والخاصة والعيادات وغيرها.  لقد أعلن رئيس الوزراء عن قدرة السلطة على إجراء 5,000 فحص يومي، وسيحسن صنعا بمضاعفتها، وضمان استمرار القدرة على إجراء الفحوصات بكفاءة ومصداقية ولفترة لا تقل عن 3 أشهر.

8.   العمل على إنشاء آلية تنسيق إقليمية للمواجهة المشتركة، بحيث لا تؤدي الإجراءات المتخذة في أي دولة الى الإضرار بمصالح الدول الأخرى، وأقصد بذلك كل من الأردن ومصر وإسرائيل!.

9.   مبادرة القطاع الخاص لاشتقاق العبر وإعداد خطط العمل المنتج في ظل الطوارئ وتدريب كوادرها على تحمل مسئولية استمرار العمل والإنتاج حتى في ظل الجائحة، والإستعداد للشراكة مع المشغلين في دفع الثمن المتوقع.

نعلم جميعا حراجة موقف ووضع السلطة ما بين تواضع الإمكانات الإقتصادية وتدني مستوى الثقة الشعبية، وانغلاق المسار السياسي وتبخر مشروع الدولة الفلسطينية بالطريقة الأوسلوية، وتغول الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفا ويمينية بإعلان برنامجها لضم 30% من أراضي الضفة الغربية، وتوقع تدهور الأوضاع ميدانيا، واحتمال تآكل هيبة ونفوذ وانتشار السلطة نتيجة لذلك.

إلا أن شعبنا، أبو التضحيات، كفيل بمنحها الفرصة لتقود وتتمكن من تحقيق الإنجازات، حتى في ظل كافة التحديات والمعيقات، وذلك في حال بادر النظام السياسي واعترف بهزيمة مسار أوسلو، واستحالة استمرار حالة الشرذمة والإنقسام، وهيأ لتداول السلطة فوراً عبر عقد الإنتخابات العامة خلال 100 يوم، واعترف بدور الآخرين في المنظومة الوطنية، والكف عن التعامل بيد ثقيلة مع المختلفين معه، وشيطنة القطاع الخاص، واستغل الكفاءات المهدورة أو المقصاة في معركة الوجود، وقام بتطهير نفسه من شرذمة المتنفذين والمسحجين والفاسدين، وإعاد الإعتبار لاستقلالية وهيبة القضاء ... والقائمة طويلة.

أعلم أنني قد أكون اقتديت بالمثل القائل "صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تاكل، وكْل حتى تشبع" في الفقرة الأخيرة من هذا المقال، ولكنني على قناعة أنه في الوقت الذي قد يعتقد البعض من أركان النظام باستحالة القيام بكل ما تمنيناه فيها، فإنها جميعا قابلة للتحقيق الفوري في حال قرر الرئيس المجازفة والمبادرة في هذا المجال، وهو قادر على ذلك، خاصة وأن كتاب التاريخ الشخصي له مفتوح على مصراعية بانتظار ما سيأتي به بعد خطابه مؤخرا، والذي آمل أن يصبح خطاباً "تاريخياً" في واقع التطبيق العملي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد