من يتابع التصريحات التي يدلي بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيلاحظ أنه يعيش حالة تخبط وارتباك شديدين فهو تارة مع السماح للفلسطينيين بالاستقلال وتارة رفض فكرة الانسحاب وقيام دولة فلسطينية في عهده وعودة إلى انكار تصريحاته، ومرة يحذر من تصويت العرب الكثيف في الانتخابات وأخرى يعتذر للعرب. ولكن مع ذلك هو ينجح بامتياز في تحقيق ما يريد على كل المستوى الداخلي بدليل أنه استطاع إثارة عقدة الخوف لدى اليهود من العرب الذين يهددون وجودهم!! ودفع قطاعات اليمين للتصويت له بكثافة، ما ساهم في فوزه وانجاز ما أراده بالضبط وهو تقوية مكانته في الحكومة وهو الذي تخلى عن شركائه بالأمس لأنه شعر أنه مقيد في بعض الأشياء التي ليست بالضرورة بالغة الأهمية، أي أنه قاد إسرائيل إلى انتخابات جديدة لينتج نفس التركيبة فقط مع تعديل لصالح شخصه.
وما يقوله نتنياهو بشأن عدم السماح بقيام دولة فلسطينية هو ليس موقفاً جديداً له، وحتى خطاب بار ايلان الشهير الذي تحدث فيه عن حل الدولتين ضمناً لم يكن موافقة صريحة منه على قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، بل تحدث فيه عن أن كل هذه البلاد (فلسطين التاريخية) هي ملك للشعب اليهودي، وقال يومها "إن هذه الأرض هي وطن الشعب اليهودي وهنا نشأت هويتنا.... لكن يجب قول الحقيقة كاملة غير منقوصة: يعيش في قلب مناطق الوطن اليهودي اليوم جمهور غفير من الفلسطينيين. إننا لا نريد حكمهم أو إدارة حياتهم أو فرض رأينا أو ثقافتنا عليهم". وأردف نتنياهو في خطابه المذكور أن السياسة الإسرائيلية يجب أن تأخذ بالاعتبار الأوضاع الدولية الراهنة، إلى جانب الإصرار على المبادئ الهامة لدولة إسرائيل، " المبدأ الأول: الاعتراف بمعنى أنه يتحتم على الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل اعترافاً حقيقياً بصفتها دولة الشعب اليهودي، أما المبدأ الثاني فهو نزع السلاح، إذ يجب أن تكون الأرض التابعة للفلسطينيين تحت طائلة أي تسوية سلمية منزوعة السلاح وخاضعة لتدابير أمنية راسخة بنظر إسرائيل. إن غياب هذين الشرطين يولد الخوف من قيام دولة فلسطينية مسلحة إلى جانبنا تتحول إلى قاعدة إرهابية أخرى ضد اسرائيل مثلما حدث في قطاع غزة ." وقال "إذا منحنا هذه الضمانة خاصة نزع السلاح والتدابير الأمنية اللازمة لإسرائيل، وإذا ما اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي، فإننا سنكون مستعدين ضمن تسوية سياسية مستقبلية للتوصل إلى حل يقوم على وجود دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب دولة إسرائيل".
نتنياهو منذ ذلك الوقت يكرر سياسته، التي اختبرت واقعياً في جولة المفاوضات الأخيرة التي شارك فيها بكثافة وجهد متواصل وأدارها وزير الخارجية جون كيري، والقائمة على عدة مبادئ منها عدم الانسحاب إلى حدود عام 1967 والإصرار على الاحتفاظ بغور الأردن ومرتفعات الجبال في الضفة، وعدم التفاوض على القدس أي بقاءها موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل- كما يردد ليل نهار- وعدم الموافقة على حق اللاجئين في العودة ورفض عودة ولو لاجئ واحد إلى الاراضي التابعة لإسرائيل، فإذا كانت هذه مواقفه التي أكد عليها مراراً فالحديث في خطاب بار إيلان في حزيران 2009 عن دولة فلسطينية ليس سوى أكذوبة فقط لتحسين صورته التي سرعان ما ظهرت على حقيقتها على طاولة المفاوضات، ولهذا ما قاله في سياق حملته الانتخابية يعبر عن حقيقة مواقفه التي ترفض قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 وهو ينكر حق الشعب الفلسطيني في أرض وطنه بالكامل، وما يهمه فقط هو ان يتخلص من الجماهير الفلسطينية الغفيرة تحت اي صيغة لا ترقى إلى الدولة ويمكن للفلسطينيين أن يسموها ما شاؤوا حتى لو دولة.
الجيد لنا كفلسطينيين في وجود نتنياهو أنه يظهر السياسة الإسرائيلية على حقيقتها دون تزيين أو غطاء يحسن صورتها، فمنذ فترة تولدت لدى كل العاقلين في هذا العالم حقيقة تقول أن المفاوضات الثنائية مع إسرائيل غير مفيدة ولا يمكنها أن تؤدي إلى أي نتيجة تفضي إلى تسوية للصراع القائم حتى لو كانت بوساطة أميركية أو غير أميركية، والسبب هو الاختلال الكبير في ميزان القوى لصالح إسرائيل وعدم وجود قرار لدى الأخيرة لانهاء الاحتلال. ولهذا السبب لن تكون العودة للمفاوضات في المدى المنظور مسألة تتجاوز كونها تغطي على الاحتلال وتكسبه المزيد من الوقت على حساب الأرض الفلسطينية التي يجري قضمها وتهويدها، ومن غير الواقعي التفكير بأنه لو فاز اسحق هرتسوغ برئاسة الحكومة فإن شيئاً سيتغير أكثر من تحسين صورة إسرائيل وإضاعة المزيد من الوقت لأن المعارضة اليمينية القوية لن تدعه- حتى لو رغب، وهناك شك في ذلك - يقوم بأي انسحاب أو إخلاء للمستوطنات ناهيكم عن تقسيم القدس.
إذاً لكي تتوفر شروط التسوية والمفاوضات الحقيقية المستندة إلى اتفاق مبدئي واضح على تقسيم البلاد على اساس حدود عام 1967 لابد من إحداث تعديل في ميزان القوى ولو بصورة نسبية لصالح الشعب الفلسطيني، وهنا تكمن أهمية العامل الدولي والاعتراف بدولة فلسطين في حدود 1967 بدون أي قيد أوشرط ووجودها على طاولة المفاوضات كحقيقة واقعة من خلال التفاوض بين دولتين معترف بهما تناقشان الحدود والأمن والقدس واللاجئين والمستوطنات والمياه والأسرى والعلاقات المستقبلية. أي أن عملية التسوية يجب أن تبدأ من النهاية وليس من الصفر وصولاً إلى الدولة كما في كل مرة. ونتنياهو جيد لنا لتحقيق انجازات على المستوى الدولي والوصول إلى تثبيت الدولة الفلسطينية، فلن يجرؤ اليوم أحد أن يدعو الفلسطينيين للتفاوض مع نتنياهو، وهو يرفض فكرة قيام دولة فلسطينية ويراها مستحيلة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية