لا تستقيم المواجهة الشاملة لخطة «الضمّ» الأميركية الإسرائيلية إلاّ إذا فهمنا وحددنا موقع هذا «الضمّ» في إطار الخطة المتكاملة لتصفية القضية الوطنية من كافة جوانبها.
أقصد، ودون أن أقلل للحظة واحدة من إقدام الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ترامب على نقل سفارتها إلى القدس ، أن الخطة الأميركية ستكون وستظل عاجزة عن تحقيق أهدافها بتصفية الحقوق الوطنية لشعبنا دون أن تكون عملية «الضمّ» هي جوهر الخطة، وهي هدفها وأداتها في آن معاً.
وأقصد، أيضاً، أن الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وقطاعاته وفئاته السياسية والاجتماعية، وفي المقدمة منه قيادته الوطنية وممثله الشرعي، يدرك تمام الإدراك أن إقدام إسرائيل على «الضمّ» سيعني في الواقع انتهاء مرحلة وبداية مرحلة، ليس بالمعنى الإجرائي للكلمة، وإنما بالمعنى الاستراتيجي لها.
في الفترة الفاصلة بين الإعلان عن نقل السفارة ثم الإقدام على هذا النقل وحتى الآن كان التوصيف الأدق للواقع هو [مرحلة انتقالية مؤقتة تمهيداً لدخول الخطة الأميركية حيز التطبيق الفعلي لجوهر ما تنطوي عليه]، وليس لكل ما تنطوي عليه.
وكل ما سبق هو خطوات تمهيدية بالرغم من أهميتها وخطورتها، وبالرغم من كل أبعادها وتبعاتها. ذلك أن «البقاء» عند هذه الأبعاد وهذه التبعات لا يعني بحال أن الخطة الأميركية قد تقدمت فعلياً وعلى أرض الواقع في مسار التصفية لحقوقنا، أو أنها (أي الخطة) قد تجاوزت كلّ الخطوط الحمراء التي حددها القانون الدولي، والشرعية الدولية إلاّ في مسألة نقل السفارة إلى القدس.
لهذا بالذات فإن فشل «الضمّ»، أو تأجيله، أو المماطلة بشأنه يعني في حقيقة البعد السياسي المباشر والعملي له اقتصار الخطة الأميركية على نقل السفارة، وعلى إجراءات معادية هنا وهناك.
في مثل هذا الواقع ـ أي عدم القدرة على «الضمّ» ـ تصبح القرارات والتوجهات والسياسات الأميركية حيال مكتب المنظمة في واشنطن وحيال الأونروا ، وحيال قطع المساعدات، والوقوف ضد فلسطين في كل المحافل والمنابر، وتتحول سياسات الإدارة الأميركية من كافة منظمات الأمم المتحدة ثم عقد مؤتمر المنامة وغيرها وغيرها إلى مجرّد ضغوط لإجبار قيادة الشعب الفلسطيني عن مفاوضات جديدة، وعلى أسس ومرجعيات جديدة تمهيداً لإخضاع الشعب الفلسطيني وإجباره على القبول بها دون أن تُقْدم هذه الإدارة ومعها إسرائيل على تنفيذ خطة «الضمّ». ودون أن يتم «ترسيم» هذا الضم إسرائيلياً والاعتراف المباشر والصريح به أميركياً تبقى الخطة هامشية وليست جوهرية. أكثر من يدرك ومن يفهم بعمق هذه الحقيقة هو اليمين القومي والديني العنصري في إسرائيل، وهم على قناعة راسخة أن الاعتراف الأميركي بالضمّ أصبح ممكناً وبات ضرورياً قبل الانتخابات الأميركية، وقبل «المغامرة» إمّا بعودة الحزب الديمقراطي الأميركي إلى سدة البيت الأبيض، أو حتى «تحرر» ترامب من احتياجه للأصوات الصهيونية المتطرفة في الأوساط اليهودية في الولايات المتحدة.
إدارة ترامب تدرك بعمق أن «تأجيل الضمّ» يشكل خطراً على جوهر الخطة الأميركية، ويدرك الفريق المتصهين الذي يحيط بالرئيس ترامب، وخصوصاً وزير الخارجية بومبيو والسفير فريدمان أن أي تأجيل أو تأخير هو بمثابة «تهديد» لنجاح هذه الخطة. وفي أغلب الظنّ فإن الولايات المتحدة تدعم حكومة الرأسين بشدة، لاعتقادها أن الوقت حتى الانتخابات الأميركية سيكون «كافياً» للاعتراف بالضمّ بعد أن تكون قد «طبخت» التوافق والاتفاق مع إسرائيل على «القبول» بالاشتراطات الاميركية المعلنة لهذا الاعتراف.
أسهبتُ قليلاً في هذا الإطار لكي أبين أن خطة الضمّ هي المسألة الأكثر أهمية وجوهرية في الخطة الأميركية، وأن هذه الخطة مطروحة بقوة على جدول أعمال هذه الإدارة وعلى جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية.
وإذا كان تأجيل الخطة الأميركية في جانب «الضمّ» منها سيعني إما فشلها بالكامل أو إفلاسها فإن إفشال الخطة هي مهمّة فلسطينية بامتياز، وعلى الجانب الفلسطيني أولاً وثانياً وعاشراً تقع هذه المسؤولية قبل أي طرف آخر، سواءً كان هذا الطرف إقليمياً أو دولياً، ولكن ليس من دون العمل والتنسيق الكامل معهما.
التأجيل أو المماطلة بما ينطوي عليه من فشل ممكن في حالة فشل حكومة الرأسين من التماسك، أو مباشرة عملها في جوّ «قانوني» آمن وفي جوّ سياسي مستقر نسبياً، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي بإسرائيل إلى الذهاب نحو انتخابات رابعة، وما يمكن أن يترتب على هكذا احتمال من أزمات سياسية واجتماعية، وحتى اقتصادية هائلة، خصوصاً في ظل أزمة « كورونا » وتداعياتها.
كما يمكن أن يتحقق هذا الفشل وفي ضوء عدم تماسك أو حتى قيام حكومة الرأسين من خلال تراجع الولايات المتحدة عن الاستمرار والمضيّ بها، إذ لا جدوى حقيقية من كامل الخطة الأميركية إذا اقتصرت على نقل السفارة، وإذا ما استبعدت عملية «الضمّ» من قبل طرفي معادلة الخطة الأميركية لأسباب موضوعية خارجة عن إرادتهما ورغبتهما الجامحة لفرضها على أرض الواقع.
سنرتكب خطيئة كبرى إذا تركنا أمور هذه الخطة الأميركية لتفشل تلقائياً بسبب تعثّر الوضع السياسي في إسرائيل أو بسبب فتور موقف الإدارة الأميركية في ضوء هذا التعثّر، وسيرجعنا هكذا موقف وهكذا سياسة إلى دائرة الانتظار الراكد، وهو الذي سيعيدنا «موضوعياً» إلى مربّع المراهنة على «تغيّر» الظروف دون أن نكون في وضع القدرة على الفعل والتأثير والتغيير، وهو ما سيؤدي حتماً إلى تآكل الحالة الوطنية، واستمرار سياسة الأمر الواقع التي تفرضها إسرائيل حتى ولو لم يتم «الضمّ» فعلياً، وليس أدلّ على ذلك من أن خيار الانتخابات الرابعة في إسرائيل ـ على صعوبة اللجوء إليها وتواضع حظها ـ لن يؤدي إلى أية تغيرات جوهرية في واقع هيمنة اليمين الديني القومي العنصري فيها.
وشتّان ما بين «الفشل» المتأتّي عن الأزمة السياسية في إسرائيل ـ وذلك لأن هذا الفشل وهذه الأزمة ليست مستدامة ـ وما بين إفشال الخطة وفق موقف فلسطيني كفاحي مستند لحالة وطنية متماسكة، ولخطة وطنية شاملة للمجابهة، وإلى برامج سياسية فعالة ومؤثرة ومتوافقة مع معطيات الدعم الإقليمي والدولي، ومستندة إلى استراتيجية صمود قادرة على إحداث الفرق المطلوب، وما يمثله هذا الفرق، وما يتطلّبه من تحشيد للطاقات والموارد في هذه المعركة الوجودية من حيث الجوهر، والمصيرية من حيث الأبعاد، والحاسمة والتاريخية من حيث الدور والمكانة والأهمية.
ولكي تكون خطة المجابهة ناجحة وفعّالة ومؤثّرة في تغيير الواقع، وفي تحقيق الأهداف، فإننا بتنا بحاجة ماسّة إلى أنساق سياسية واجتماعية وتنموية ترتقي بالفعل والأداء الوطني إلى مستوى التحدّي والخطر، وإلى مستوى صعوبة المهمّة والعقبات التي ستعترض حتماً مسارها نحو الأهداف المرجوّة منها.
هذه خطة للكل الوطني، وليس لفصيل دون آخر، وليست لفئة دون أخرى، وليست لحسابات صغيرة أو كبيرة لهذا الفريق أو ذاك، وهو ما سنحاول على مدار المقالات القادمة أن نساهم به ونقترحه وندعو إليه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد