ما أزال أذكرُ عندما طُبع كتاب (حماري الحكيم) للأديب الساخر، توفيق الحكيم، في طبعة جديدة، وضعتْ مجلةُ  «روز اليوسف» صورةَ غلاف الكتاب على إحدى الصفحات، وكانت الصورة، تجمع توفيق الحكيم مع حماره (الحكيم)، طلب محرر الصحيفة من كبار الكُتابِ أن يُعلقوا على الغلاف! قال الشاعر والأديب، كامل الشناوي: «هذا إعلانٌ مدفوعُ الأجرِ لكتاب، حماري الحكيم!» أما عباس محمود العقاد فكتب ساخرا: «يا حمارةَ الحكيم اذهبي إلى حماره»!
أما مصطفى أمين رئيس تحرير الصحيفة فقال: «اختبر ذكاءك، أيهما توفيق الحكيم؟!»
لم يقاضِ توفيقُ الحكيم المعلقينَ الساخرينَ في المحاكم.
كتاب، «حماري الحكيم»، مليءٌ أيضا بالسُخرية من السياسيين، ومن المنافقين، قرأه جمهورٌ كبير، هم أيضا لم يطلبوه للمحكمة لأنه انتقد السياسيين، جاء على لسان حمار الحكيم:
«نحنُ الحمير، نُفكِّر جميعُنا تفكيرا واحدا، ليس عندنا حمارٌ (مثالي) وآخرُ (ماديٌ)، ليس عندنا زعماء، وقادة، ولا أوثان، ولا أوطان، بل يوجد حميرٌ على أرض الله، شعورُها واحدٌ، وقلبُها واحد».
طرح حمار الحكيم على مُحاوره سؤالاً: «ما رأيُك، لو ألَّفْنَا نحن حزبا؟ ننتخب ثلاثين حمارا من الطراز الأول، يُؤلّف منه حزبُ الحمير»!
الحكيم: «أوَ تظنُّ أنَّك أحدثتَ جديدا في السياسة؟ إنني أرشحك. للرئاسة بشرط أن تضع مبادئ الحزب»
الحمار: «هل نسيتَ يومَ أحصيْنا ما نشرتَه أنتَ من أفكار، فوجدنا أنَّ كلَّ آرائكَ السياسية الحصيفة خرجتْ من رأسي أنا، أما آراؤك السخيفة خرجت من رأسك أنت؟»
الحكيم: «هِس، حتى لا يسمعك أحدٌ»
أعلن الحمار مبادئ الحزب: «نحنُ نشأنا في هذا البلد، نَعِمْنا بخيرهِ وخميره، رعيْنا برسيمَه، ونجيله، من أصحاب الفكر الراجح، ومِن قادة الرأي الناصح، لذا قررتُ أن أُساهمَ في الحركة السياسية بنصيبٍ، قررتُ العمل لمصلحة الغير، وإنكار المصلحة الشخصية، هذا هو المأثور عن جنسنا، جنس الحمير، منذ ظهورنا على الأرض، لم يُعرَف أننا سرقْنَا أكثر مما نستحقُّ بعرق الجبين، ولا نَعِمْنا بالترفِ والدلال، كما تنعم الخيول، حتى أنكم، أيها البشر، تنعتون مَن يعمل بِجِدٍّ (حمار شُغل)»
قال الحكيم: «إذا أردتَ أن تنضمَّ إلى حزبٍ بشريٍّ فما عليك إلا أن تضع كلمة (لا) أمام مبادئك السابقة، كما أن عِناد الحمير، وصلابة رؤوسها لا ينفع مع السياسة!
لم يقتصر النقد على السياسيين فقط، بل طال المنافقين أيضا عندما طلبَ منهُ حمارُهُ أن يُعلمه النفاق، قال الحكيم: «إنَّ للنفاقِ قيمةً كُبرى في الأسواق العالمية يحرص عليها الناسُ، وأنَّ أجودَ أنواعِ النِّفاقِ موجودٌ في مصرَ، كما يوجد فيها أجود أنواع القطن، (قُطن طويل التيلة)، هناك أيضا نِفاق طويل التيلة، يمتدُّ إلى الفردِ والمجتمع!
إنَّ هناك أفرادا نادَوْا بأفكار حُرَّةٍ، فاتهمهم الناسُ بالالحاد، فلم يكتفوا بالصمت، بل حملوا في اليوم التالي المسابحَ الكهرمان، وارتَدَوا القمصان والعمائم الخضراء، هناك سياسيون قد خلق الله لكلٍ منهم وجها واحدا، فصنعوا لأنفسهم وجوها عديدة، يستقبلون بها كلَّ حكومةٍ!
كان النقدُ في ذلك العصر لا يُسببُ الثورة والغضب، واللجوء للشرطة والقضاء، بل يبعث على السرور والابتسام، ويُسهم في إنتاج الإبداع، الإبداع الأدبي الساخر، لما له من منزلة راقية في تراثنا الثقافي العربي!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد