يصعب تخيّل انتشار « كورونا » دون الجدل الكبير الذي أثاره والذي يتعدى السياق الطبي، ليشمل أسئلة أكبر حول التضامن العالمي الذي بات مفقوداً في هذه الحالة، وحول الأبعاد السياسية التي تصل حد ملامسة نظريات المؤامرة لتفسير سرعة وطبيعة انتشار المرض وقبل ذلك ظهوره، وربما علاقة كل هذا بالسياق المعولم الذي أيضاً يصعب تخيل حالة الهلع التي تصيب العالم دون الإحالة إلى نتائج العولمة ومدى تأثير هذا على مستقبلها أو كونه دافعاً جديداً لنموها. وبشكل عام، فإن مرض كورونا لم يعد مجرد مرض يجري البحث عن علاج له، بل إن النقاش الأوسع لا بد أن يكون ذا مغزى سياسي وبعد دولي بامتياز.
إلى جانب هذا، فإنه أيضاً من المشكوك أن يتم قصر النظر في ظهور المرض وانتشاره وفق «براديم» موحد يقول بوجود جهة ما فعلت ذلك؛ لأن أحداً لم ينج منها. بل يمكن تخيل أن بعض الأماكن المشار إليها بالاتهام باتت أكثر عرضة لتأثيرات المرض من بلاد ظهوره الأول. لكن أيضاً هذا، ووفق خبرات التاريخ، لا يجب أن يجُبّ الاحتمالات الواردة في النقاش، لأن النتائج المتوقعة بعد انتهاء الأزمة بقدر ما يمكن أن تكون كبيرة بقدر ما ستؤثر بالتأكيد على نوايا الفاعلين في النظام الدولي وربما تصرفاتهم بعد ذلك، الأمر الذي سيعكس نفسه على بنية النظام الدولي ذاته وعلى طبيعة حراكه الداخلي.
إحدى علامات التعجب الكبرى مثلاً هو مدى هشاشة الحضارة الإنسانية أمام فيروس صغير. سأل أحدهم: هل يعقل أن تنهار الحضارة البشرية بهذه السهولة؟ الطب الذي كان دائماً سلاح بقاء البشرية الأول والذي حماها على مدار قرون من الانقراض يبدو اليوم عاجزاً عن الوقوف في وجه الأزمة وفي الحد من انتشار الوباء. حتى مكونات الفيروس لم ينجح الطب العريق ولا المختبرات التي تبحث في أدق أدق الجزيئات في التوصل إلى أنصاف إجابات عنها. وهذا يبدو غريباً. والأغرب أن أحداً لا يقدم تفصيلاً زمنياً ممكناً يمكن وفقه التوصل إلى حل للأزمة القاهرة. النتيجة أن البشرية عاجزة عن مواجهة المشكلة. مثلاً دولة بحجم إيطاليا وحضارتها العريقة وتقدمها، تحديداً في مجال الطب، لا تستطيع حماية نفسها من كارثة الموت الذي يحصد الأرواح هناك بلا رحمة. هل فعلاً الحضارة الإنسانية عاجزة عن وقف انهيارها الذي يبدو للبعض وشيكاً أمام ما يجري. من المحقق أن الأزمة تبدو أكبر من توقعات القائمين على حلها، وأن الطب البشري على تقدمه لم يكن يتوقع هول النتائج، رغم أن فيروسات كورونا ليست جديدة عليه، بل إنها ظهرت في مراحل مختلفة من التاريخ الحديث، لكن ما تواجهه البشرية يبدو أكثر خطراً من كل الاحتمالات ليظل السؤال السابق قائماً: هل ستفشل البشرية في مواجهة الأزمة وتسلّم رقبتها ومنجزاتها للفيروس حتى يعبث بها؟ وهذا ربما لن يتوقف عند هذا الحد؛ إذ إن الفيروس قد ينتج فيروسات أخرى وبالتالي أزمات أخرى.
مع هذا يصعب تخيل ذلك، خاصة أن الحضارة البشرية انتصرت على كل المحن، وأن الإنسان هزم الطبيعة وجعلها عنصراً من عناصر بقائه بعد أن كانت قوة للقضاء عليه، سواء الريح أو المطر أو البحار أو الصحارى. على مدار التاريخ واجهت البشرية أمراضاً أشد فتكاً أودت بحيوات الكثيرين وحصدت أرواح الملايين، لكنها لم تنهر. بل إن التاريخ يخبرنا بلحظات كادت فيها البشرية أن تستسلم أمام جبروت الأمراض التي واجهتها. وبعض الأمراض، خاصة الطاعون والكوليرا والإنفلونزا، حوّلت التقدم البشري ومنجزاته في الطب إلى ترف لا نفع له.
وفي مقارنة واضحة مع كل الكوارث السابقة، فإن هناك عاملاً مهماً لا يمكن إغفاله في هذا السياق المتعلق بكورونا، ألا وهو التوقيت الذي ظهر فيه الفيروس، وطبيعة انتقال المعلومة حوله. إن سرعة انتقال المعلومات ووسائط التواصل الاجتماعي والآلية التي يتم فيها نشر كل ما يجري في أي زاوية بأصغر البلدان على الخارطة، كل هذا أعطى بعداً آخر لما يجري، وساهم في الهلع الكبير الذي يسري سريان النار في الهشيم. في السابق، كانت الأمراض تفتك بالناس وربما تجهز على بلد بأكمله دون أن تعرف بقية بقاع الأرض بالأمر. وربما لولا بعض المرويات التاريخية والمسرودات الشفوية وبعض الرسومات في العصور المتأخرة، لما كان لنا أن نعرف عن الكثير من الكوارث. لكننا عرفنا بعد عقود وبعد أن كانت الأزمات قد انتهت. أما في عصر الكورونا فالفيروس يشبه الزمن الذي ظهر فيه، زمن الانتشار السريع والنقل اللحظي والمباشر لكل ما يدور على وجه الأرض. وهذه السمة وحدها جعلت الفيروس مثار هلع. المعلومة هي التي تصيبنا بالهلع وليست الحقيقة. الصور هي التي تصيبنا بالفزع وليست الواقعة.
مرة أخرى، إنها الحضارة البشرية، وإن التقدم هو من يعطي الأشياء خصائصها. قبل أيام، ظهر مقال للباحث برانكو ميلا نوفيتش، في موقع مجلة «فورن أفيرز»، يتوقع فيه أن تكون إحدى نتائج «كورونا» انهيار العولمة؛ لأن العالم سيشهد تحولات في طبيعة اقتصاده بسبب تراجع العرض والطلب الناجميْن عن الحجر المستمر للناس، خاصة إذا استمرت الأزمة لأكثر من ستة أشهر. ويعتقد الباحث أن آلية انهيار العولمة ستكون بنفس الآلية التي انهارت فيها الحضارة الرومانية. وبالطبع فإن مثل هذا التحليل يحمل الكثير من التعميمات، لكنه رغم ذلك ينطوي على بعض المحاذير التي يجب أن تكون من دروس «كورونا» الأولى، إنها الدروس المتعلقة بمفهوم التضامن العالمي الذي أجهزت عليه العولمة وجشع الرأسمالية. وربما هذا يتطلب إعادة صياغة للنظام الدولي بما يكفل إعادة الاعتبار لتلك القيم الأساسية في علاقات الدول فيما بينها كما هي في علاقات الأفراد. دون ذلك فإن مناعة الحضارة البشرية ستظل ضعيفة وهشة.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد