ضرب فيروس كورونا العالم في غمضة عين، وسرعان ما تحول إلى وباء عالمي في أيام، بعد أن ظهرت أولى الإصابات به في الصين. والمرض الذي بات عالمياً على صعيد الانتشار لم يمهل الدول الكثير من الوقت من أجل إيجاد سبل تعاون مشترك لمكافحته. فكل دولة ظلت مشغولة بنفسها ونأت عن الفعل الجماعي رغم جهود منظمة الصحة العالمية المشكورة في مساعدة الدول. لكن لم يكن ثمة جهد مشترك أو على الأقل لم يكن مثل هذا الجهد واضحاً في الحرب الشرسة التي تخوضها البشرية من أجل البقاء في وجه فيروس لم يتم اكتشاف علاج له. وربما أن غياب هذا الجهد - الغياب الذي هو من تأثير قوة انتشار الفيروس وفتكه - هو سبب آخر لتفشيه بصورة أكبر. المعادلة متبادلة النتائج فالمرض وانتشاره بالطريقة التي يتم فيها لم يترك فرصة للدول من أجل أن تجلس وتتشاور وتتحاور وتتبادل الخبرات والتجارب والمعلومات ونتائج الأبحاث، فكل دولة مشغولة بمصائبها ومشاكلها وتأثيرات المرض على مواطنيها ومحاولتها مكافحته والحد من انتشاره داخل البلاد. ومن جانب آخر، فإن غياب الجهد المشترك أعاق سرعة الوصول إلى حلول؛ إذ إن من شأن تبادل المعلومات وتلاقح التجارب والخبرات أن يسرّع من فرص الوصول إلى علاج، وبالتالي وضع حد للمرض الفتاك وتسريع نهايته. وعليه، فإن النتيجة الأبرز هي زيادة عمر الفيروس الأكثر استعصاء على البشرية منذ عقود.
بل إن التوتر الذي خلقه انتشار المرض فتح الباب أمام التكهنات وأطلق العنان لخيالات نظرية المؤامرة. وفيما لا يمكن استبعاد شيء من التحليل، فإن السياقات التي ظهرت فيها هذه التكهنات والخيالات هي نتيجة أخرى من نتائج المرض. إذ يصعب التصديق أن الفيروس سقط من السماء في ليلة وضحاها، وأنه فجأة وجد طريقه إلى أجساد الناس بهذه السرعة كأنه كان نائماً واستيقظ أو أنه كان ضالاً فوجد طريقه. ثمة مساحات كبيرة من الشك تجد طريقها سهلة إلى النفوس حين يتم التفكير في أمر الفيروس الذي بدأ مثلاً بضرب دولتين عدوتين لواشنطن تتمثلان في الصين وإيران، خاصة أن عملية انتشاره في تلك البلدان كانت واسعة وسريعة وحرجة. لكن أيضاً هذا يبدو من باب استسهال الأمور، إذ إن الفيروس انتشر بقوة في أوروبا بعد ذلك. فإيطاليا البلد السياحي الأول في العالم وجدت نفسها ضحية سهلة للمرض الجديد. بلاد مايكل أنجلو ودانتي ودافنتشي ورفائيلو، البلاد التي حملت للحضارة البشرية بواكير إنجازاتها المعرفية والفكرية، تعاني تحت أيدي المرض، ليست فقط إيطاليا بل جل دول أوروبا باتت مفتوحة أمام هجمات المرض الفتاك. وعليه فإن الافتراض بوجود مؤامرة هو استخفاف بالعقل البشري واستخفاف بمنجزات الحضارة البشرية التي روّضت الطبيعة وانتصرت عليها في أشد معارك التاريخ ضراوة والمتمثلة في بقاء الإنسان على الكوكب بعد أن هبط عليه عارياً سليب القوة.
مثلاً إحدى الملاحظات المهمة حول انتشار المرض، ويجب على شخص مثلي ألا يفتي طبياً في الأمر، هي أنه ينتشر في الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط بين الناس. إيطاليا بلاد السياحة الأولى في العالم كانت البوابة الرخوة للمرض في أوروبا حيث يفد الناس من كل بقعة على وجه الأرض، ربما كان مصدر المرض بلاد معينة ثم انتقل عبر السفر إلى بقاع أخرى. والصحيح أن اختلاط الناس كما قالت فتاة إيطاليا في أحد الفيديوهات المتداولة حول المرض هو أساس انتشاره. والإنسان الحيوان الاجتماعي عليه أن يدفع ثمن خطيئته الأولى التي جعلت منه مختلفاً عن كل المخلوقات الأخرى على وجه الأرض: إنه اجتماعي. عندنا في فلسطين أيضاً وصل المرض مدينة السياحة الأولى بسبب وجود السياح والاختلاط. وهذا أمر طبيعي في ظل طبيعة انتشار المرض المشار إليها. أيضاً الأماكن المكتظة في المدن الكبرى. أسباب وظواهر مختلفة لكنها تشير إلى بعض الحقائق التي يجب أن تكون مؤشراً حول سبل احتواء المرض.
في سياق شبيه، تخيلوا أن وسائل النقل المعاصر هي من سرّعت في انتشار المرض. فالفيروس الذي يمكن أن يكون مهده في مدينة أو قرية نائية في الصين بعد أيام كان في كل مكان بالعالم. إنها العولمة بوجه آخر. فكما تنتشر المعلومات وكما تنقل الأموال بسرعة أيضاً الفيروس يركب مع المرضى في الطائرة ويصل إلى كل بقعة بالعالم. عولمة المرض ظاهرة أخرى من ظواهر عالمنا المعاصر. العولمة التي كانت دوماً موضع نقد ومدح لكنها ظاهرة لا يمكن تجاهل وجودها وتجاهل حقيقة أن خصائصها أبرز ما يميز حياتنا المعاصرة. 
يمكن الافتراض أن هذا المرض في أزمان أخرى ما كان ليكون بهذه القوة. لكن كل زمن وله مرضه وله ما يساعده. تذكروا الطاعون والكوليرا والإنفلونزا. كلها في أزمانها كانت أكثر فتكاً وكلها كادت أن تجهز على البشرية، وفي كل مرة كان يعتقد أنها النهاية التي ستجهز على الجميع. لكن البشرية عظيمة بما يكفي حتى تتجاوز كل المحن. وربما في وقت قريب سيصبح الحديث عن الكورونا جزءاً من الحديث عن الماضي الأليم، لكنه فرصة للاحتفال بعظمة الإنسان ونجاح العلم.
لكن، ولنعود للنقطة الأولى التي أثرناها، فإنه في عالم العولمة الحقيقي (هناك من سيجادلكم أن كل العصور كانت معولمة أيضاً)، فإن دول العالم فشلت في أن تعكس صورة متعاونة للبشرية العظيمة التي تسعي وتطمح لحكم كل العوالم الخارجية عبر اقتحام الفضاء. فشل لا بد أن نقول: إنه معيب بحق الإنسانية. صحيح أن كل الدول منشغلة بآلامها، لكنه الألم الذي لا يحول دون تعاون مشترك وبناء بين الجميع لأن نهاية القصة ستكون مشتركة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد