على الرغم من أنّ القيادة الإيرانية تدّعي أن الاتفاق الوشيك القادم مع الغرب لا يجب أن «يتطرق» إلى أية موضوعات أخرى خارج نطاق المسألة النووية الإيرانية، إلاّ أن الواقع يملي أن يكون الاتفاق المفترض هو المدخل المباشر والأكيد «للتطرق» تحديداً لمستقبل العلاقات الإيرانية الغربية وهو الذي يعني بصورة ملموسة حدود الدور القادم لإيران.
قلت في مقالات سابقة عن المسألة النووية الإيرانية بأنني على قناعة شديدة بأن إيران لم تحاول قط صناعة القنبلة النووية، وبأنني على قناعة أشد أن إيران امتلكت منذ عهد الشاه وحتى يومنا هذا كل «المؤهلات» المطلوبة لصناعة هذه القنبلة، سواءً كان ذلك يتعلق بالقدرة التكنولوجية أو الموارد المالية وكذلك الفرصة التاريخية المناسبة وخصوصاً في مرحلة «انشغال» العرب بالعراق، والإرهاب وأفغانستان وغيرها وغيرها، لكنها لم تعمل على ذلك.
وما أراه أن إيران «لعبت» دور الغامض على هذا الصعيد لسببين، أولهما: محاولة تأمين وضمان الاعتراف الغربي بحق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، وثانيهما: إطالة فترة المناورة مع الغرب لاستكمال البرامج الأخرى للنظام الإيراني. لقد استطاعت إيران أن «تسوّق» غموضها للوصول إلى الأهداف التي كانت ترمي فعلاً للوصول إليها.
لعبت إيران إذن لعبة الغموض بهدف الوصول إلى الاعتراف الغربي بحقها في امتلاك التقنية النووية ولكنها لعبت دور الدولة الإقليمية في نفس الوقت.
فقد استطاعت السيطرة عملياً على القرار العراقي كما أصبحت «الضمانة» الوحيدة لبقاء النظام السوري، وهو الأمر الذي يعني أن القرار في سورية أيضاً بات مرهوناً بالإرادة الإيرانية، إضافة إلى التأثير الحاسم لإيران في لبنان عبر حزب الله كذراع ضارب لإيران وتحويل حزب الله نفسه الى «قوة إقليمية» على الصعيد الأمني والعسكري في آنٍ معاً، هذا إلى جانب محاولة التأثير على الوضع الفلسطيني.
التطورات الجديدة في اليمن جددت الاهتمام بمدى تمدد النفوذ الإيراني خصوصاً وأن جماعة الحوثيين أنفسهم باتوا بحاجة ماسة إلى الدعم الإيراني المباشر، وهو ما سيمكن إيران في النهاية من لعب دور القوة المؤثرة في المعادلة اليمنية.
يضاف إلى كل ذلك أن إيران في هذه الأثناء باتت لا تخفي استعدادها (إذا ما تعرضت لحرب غربية أو إسرائيلية) «استخدام» قوتها الشيعية في بلدان الخليج وحتى التهديد بإغلاق مضيق هرمز والسيطرة على جزء من باب المندب إذا «اقتضت» الضرورة.
ومقابل كل ذلك أبدت إيران مهادنة إيرانية كبيرة لحرب الغرب على كل من العراق وأفغانستان، وسوّقت هذه المهادنة وكأنها تأتي في إطار الاعتدال ومحاربة الإرهاب، علماً بأن هاتين الحربين بالذات كانتا في صلب مصلحة النظام الإيراني نفسه.
بكل هذه المعاني والحقائق يمكننا اليوم وضع الكثير من التوقعات الواقعية حول مستقبل العلاقات الإيرانية الغربية.
الاتفاق بين الغرب وإيران سيعيد إيران إلى الحلبة الدولية بزخم كبير وبموارد اقتصادية باتت أكثر من ضرورية، وخصوصاً في حالة رفع الحصار الاقتصادي عنها وتحرير أكثر من 50 مليار دولار على الفور.
إن دخول إيران على الخط في تقرير مستقبل الشرق الأوسط يعني تحديد الإطار الذي تستطيع إيران من خلاله ممارسة نفوذها وهي منطقة كبيرة وواسعة، ولهذا فإن الدور الإيراني على الصعيد الإقليمي تحول إلى دور رئيسي وأكبر مما هو عليه الدور التركي وبما يحاول أن يوازي الدور الإسرائيلي نفسه.
لا أقصد أن الغرب سيقبل هذه «الموازاة» ولكن الغرب لا يملك في الواقع ما يمنع هذه الموازاة وليس لديه الوسائل الكفيلة بمنعها.
وتكمن المشكلة على هذا الصعيد في موقف إسرائيل، وإذا ما كانت مستعدة «لتجرّع» هذا السمّ، أم أنها يمكن أن «تقلب» الطاولة قبل أن يستفحل «الخطر» الذي طالما تحدّثت عنه إسرائيل وحاولت تأليب الغرب لمواجهته.
إسرائيل ليس لديها لا القدرة ولا الشجاعة لمنع تمدد الدور الإيراني، وليس لدى الغرب أية نية للانجرار وراء الموقف الإسرائيلي للحرب على إيران، الأمر الذي يحتم الوصول إلى نوع من المساومة.
ما هي هذه المساومة إذا كان لا بدّ منها إذن؟
أزعم أن إيران تحاول الآن «التفاهم» مع الغرب على المسألة النووية أو التركيز عليها أولاّ لأنها (أي إيران) تعتقد أن فرصة الاتفاق مع الغرب على الدور الإيراني ما زالت مبكرة، كما أن إيران ليست جاهزة لا لتقبض الثمن ولا لتدفع الثمن المقابل.
المخيف في كل ما هو قادم من دور إيراني على مستوى الإقليم هو أن الطموحات الإقليمية لإيران كبيرة وواسعة، وهذه الطموحات ذات طابع إمبراطوري بالمعنى الإقليمي للكلمة، ولهذا فإن المجال الوحيد للثمن هو القضية الفلسطينية.
في ظل غياب المشروع القومي العربي، وتواضع الأطماع التركية لابتلاع سورية، وفي ظل سياسات مراضاة إسرائيل الغربية المعتادة، ولأن إيران وصلت إلى ما وصلت إليه من طموحات وأهداف فإن الشعب الفلسطيني سيدفع فاتورة الصراع على الأدوار الإقليمية، ولهذا كله فإن القرار الوطني الفلسطيني المستقل عن التجاذبات الإقليمية هو القرار الوحيد القادر على الوقوف في وجه محاولات الغرب إرضاء إسرائيل وإيران معاً على حسابنا وعلى حساب مصالحنا الوطنية.
والمصلحة العليا الفلسطينية تقتضي أن تتمسك بالدور المصري باعتباره الأمل العربي الأول في إعادة قيام مشروع قومي عربي في هذا الإقليم، ومن هنا فإن وضع قضية الشعب الفلسطيني في أيدي لاعبي الأدوار الإقليمية هو مقتل القضية الوطنية في المراحل القادمة، وهو الخطر المحدق بنا كما يحدق بنا الموقف الإسرائيلي في كل لحظة نعيشها في مواجهته.
وعلى الإسلام السياسي في فلسطين أن يراجع حساباته على هذا الصعيد قبل فوات الأوان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية