ما نُشر حول المشروع الأميركي التصفوي الذي سُمي ظلماً " صفقة القرن " يُظهر بوضوح أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تتعاون مع اليمين الإسرائيلي المتطرف لشطب القضية الفلسطينية تماماً من الأجندة الإقليمية والدولية، من خلال اقتراح مشروع لا يصل إلى مستوى أي حد أدنى يمكن قبولُه من الشعب والقيادة الفلسطينية، بل لا يرقى إلى ما سبق وطُرح على الفلسطينيين من قادة إسرائيليين مثل ايهود باراك وايهود اولمرت. ويبدو ان هذا المشروع يرمي إلى تمرير خطة اليمين الإسرائيلي الاستيطانية التي يراد منها الاستيلاء على الضفة الغربية او أجزاء كبيرة منها بصورة احادية الجانب بالتذرع بالرفض الفلسطيني للمشروع الأميركي.


خطة ترامب تقرر من جانب واحد مصير كل المسائل الجوهرية المطروحة للمفاوضات، بما ينسجم تماماً مع موقف الحكومة الإسرائيلية، فهي لا تستند إلى حل الدولتين على أساس حدود عام ١٩٦٧، بل لا تتحدث عن انسحاب اسرائيلي أصلاً، وهي تبقي القدس الشرقية وخاصة البلدة القديمة والحرم تحت السيادة الإسرائيلية، بمعنى ان القدس الشرقية ليست عاصمة لدولة فلسطين، بل فقط بعض الأحياء العربية التي تريد إسرائيل التخلص منها أساساً في كل تسوية، وقضية اللاجئين مستبعدة تماماً. وتعطي الخطة إسرائيل الحق في ضم كل المستوطنات وليس فقط الكتل الكبيرة باستثناء بعض البؤر التي لا تريدها إسرائيل والتي لم تمنحها "الشرعية" الاحتلالية. وبالنسبة للأمن تبقى الضفة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة أي تحت الاحتلال الفعلي للأبد. وتتحدث الخطة كذلك عن دولة فلسطينية على حوالي 70% من مساحة الأراضي المحتلة. بمعنى ما يتبقى للفلسطينيين هو عبارة عن كانتونات معزولة ومطوقة بالمستوطنات وتحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بدون القدس.


الهدف الحقيقي للمشروع "الصفقة" المزعومة هو هزيمة الرواية التاريخية الفلسطينية وشطب الحق الفلسطيني الطبيعي والسياسي والقانوني في فلسطين، والاعتراف فقط بالرواية اليهودية المستحدثة صهيونياً، فنحن كشعب فلسطيني لسنا سوى مجرد سكان في هذه البلاد أتينا بالخطأ. واليهود الإسرائيليون- كثر الله خيرهم- سمحوا لنا بالعيش هنا مع بعض الحقوق أو الشروط المعيشية. وما علينا سوى أن نقبل بهذا المولود المشوّه ونعتبره قدرنا لنسلم به ونسبّح بحمد ترامب ونتنياهو ومن يخلفه. كما أنه بات مطلوباً منا في سياق هذا المشروع أن نعترف بإسرائيل وطناً قومياً لـ"الشعب اليهودي". وبهذا ينتهي الصراع وننعم بالرخاء الاقتصادي الموعود، أي بعض المليارات التي سيكون مصدر معظمها الدول العربية التي يجب عليها تمويل المشروع بما في ذلك دفع أموال لإسرائيل المسكينة!


يبدو أن إسراع ترامب في الإعلان عن مشروعه يرتبط برغبة في مساعدة بنيامين نتنياهو في الحصول على فرصة اضافية للفوز بعدما تعذر عليه ذلك. ومع احتجاج ائتلاف "أزرق- أبيض" دُعي رئيسُه بيني غانتس للبيت الأبيض ليكون شاهد زور بعدما تقمص شخصية نتنياهو في تبنيه لخطة الضم، حتى لو حاول إضافة بعض التوابل والمقبلات عليها. ويمكن أيضاً أن يكون ترامب وصل إلى قناعة بأن الوضع السياسي في إسرائيل لن يتغير في الانتخابات القادمة، وبالتالي لا يوجد أي داعٍ لانتظار نتيجة الانتخابات وتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وعليه يمكن لمشروعه أن يساهم في خلق حكومة وحدة تضم نتنياهو وغانتس على أرضية "الصفقة"، وبهذا تصبح الصفقة إسرائيلية- إسرائيلية- أميركية. وهناك من يعتقد أنه طلب من ترامب إعلان خطته حتى تصبح أمراً واقعاً حتى في حال فشله في الانتخابات القادمة في الولايات المتحدة الأميركية. وبهذا يصعب على الديمقراطيين الذين يعارضون الخطة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.


المشكلة لا تكمن فقط بـ "صفقة" ترامب التي يرفضها الفلسطينيون ولن يقبلوا بها، بل في تقدير الإدارة الأميركية وإسرائيل لرد الفعل الفلسطيني. فكثير من المحللين الإسرائيليين يعتقدون أن رد الفعل الفلسطيني سيكون هزيلاً، ولن يشكل أي عائق أمام تنفيذ إسرائيل للمشروع من جانب واحد على الأرض. والذي دفعهم لهذا الاعتقاد هو رد الفعل الفلسطيني التافه مقابل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. فحسب التصريحات الفلسطينية كان سيحدث هذا القرار الأميركي زلزالاً في المنطقة، وللأسف لم يحدث شيء، ومرت الأمور بسلام من جانب إسرائيل، ولهذا يتوقعون هذه المرة أن يكون الوضع مماثلاً لما حصل في الماضي.


في الواقع السيناريو المرسوم للرد الفلسطيني يمكن أن يصبح حقيقة مجدداً إذا بقي الوضع على حاله اليوم. وما يدعو للحسرة هو تكرار خطاب الشعارات دون فعل حقيقي على الأرض، حتى شعبنا الفلسطيني لم يعد يؤمن بقياداته ويصدق شعاراتهم طالما نحن لا نزال في مربع الانقسام ولم نقم بخطوة واحدة جدية لإنهائه وتوحيد الوطن والمؤسسات القيادية والسلطوية، ولن يأخذنا أحد على محمل الجد دون إنهاء الانقسام. ومع كل الصعوبات والمخاطر التي تترتب على المشروع الأميركي فهو من الجانب الآخر يشكل فرصة لنا للخروج من عنق الزجاجة وتغيير الإطار الذي حبسنا أنفسنا فيه. وهناك إمكانية الآن لوحدة وطنية تبدأ بانتخابات لبرلمان دولة فلسطين وليس للمجلس التشريعي للسلطة الوطنية، بمعنى تغيير واقع السلطة والتحرر من قيود "أوسلو" الذي مات وأطلقت عليه الإدارة الأميركية رصاصة الرحمة، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير ومشروعنا الوطني التحرري، بمشاركة كل القوى الحية والراغبة في أن تكون جزءاً من هذا المشروع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد