فاجأت المسيرة الضخمة التي جرى تنظيمها في غزة بمناسبة ذكرى انطلاقة حركة «فتح» والثورة الفلسطينية حتى أولئك الذين قاموا على الإعداد والتجهيز لها. الأرقام كانت كبيرة بما لا يوصف. سلطة « حماس » في غزة سمحت بمسيرة في شارع واحد بمدينة غزة ظناً منها أن الناس قد لا يملؤون الشارع أو ربما يختلف الفتحاويون ويقتتلون فيما بينهم، ويتم تخريب المسيرة بالنظر إلى الخلاف في صفوف «فتح، ولكن المفاجأة الكبرى كانت بوحدة الفتحاويين وخروج هائل لجماهير غزة الذين امتلأت بهم الشوارع إحياءً لهذه المناسبة المهمة.
ربما أصابت المسيرة بعض قيادات «فتح» في غزة وربما في الضفة كذلك بالغرور، باعتبار أن المسيرة الهائلة التي شارك فيها مئات الآلاف وفي بعض التقديرات فاقت المليون مشارك هي تعبير عن الدعم الذي تحظى به القيادة الفتحاوية، سواء في غزة أو على مستوى الوطن. والواقع هو أن المسيرة هي انعكاس لمجموعة متداخلة من العوامل التي دفعت الناس للخروج بهذا الكم الهائل. فهذه أول مسيرة تسمح بها «حماس» منذ سنوات عديدة ربما منذ مسيرة إحياء ذكرى الرئيس ياسر عرفات، وبالتالي هي مناسبة للخروج والتعبير عن دعم «فتح» بعدما مُنعت من إحياء مناسباتها الوطنية، وهنا خرج كل الفتحاويين رجالاً ونساءً وحتى أطفالاً.
والعامل الثاني الذي دفع الناس للخروج هو ضيق الحال من سيطرة «حماس» على غزة، والضغط والكبت الذي عانت منه الجماهير غير الحمساوية في القطاع، فكان الخروج ليس مقصوراً على مؤيدي «فتح» بل كل من كان يعارض سلطة «حماس»، أي الجماهير العريضة حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى أي فصيل، فكانت عبارة عن متنفس للناس لتفريغ الكبت والاحتقان الذي يعيشونه تحت هذا الواقع المأساوي في غزة. وهنا تعتبر مناسبة انطلاقة «فتح» مناسبة وطنية عامة باعتبارها انطلاقةَ الثورة الفلسطينية المعاصرة وتعبيراً عن دعم البديل لسلطة الأمر الواقع في غزة. وعليه فقسم كبير من الجماهير التي خرجت فيما يشبه الطوفان جاءت لتحتفل بمناسبة وطنية عامة، وفي نفس الوقت لتعبر عن احتجاجها على الوضع القائم ومعارضتها لاستمراره.
أما الدافع أو العامل الثالث، فهو رغبة الناس في التغيير في حصول وحدة وطنية وإجراء انتخابات عامة، علها تكون بدايةً للخلاص من المأساة الكبرى التي يرزح تحت عبئها المواطنون في قطاع غزة، خصوصاً بعد أن استبد الواقع الكارثي بغالبية مواطني قطاع غزة. وقد يكون نوعاً من دعم قرار الذهاب إلى الانتخابات العامة التي أعلن الرئيس أبو مازن عن العزم على إجرائها مع أن الموعد غير محدد بعد.
خرج الناس بالرغم من غضبهم من إجراءات السلطة التي مست بصورة خاصة بجمهور «فتح» ومؤيديها الموظفين في السلطة الذين قُلصت رواتبهم وقُطعت عن بعضهم وتحول قسم منهم إلى التقاعد المالي (الابتكار الذي لا ينظمه قانون)، والذين تضرروا من سلسلة من الإجراءات طالت مختلف المجالات في الصحة والتعليم والرواتب والامتيازات والحوافز والمساعدات الإنسانية وغيرها. وهذا يفسر بوضوح أن من خرج لا يحمل في ذهنه تأييداً لهذه المجموعة أم تلك، بقدر ما كان التأييد لحركة «فتح» ومنظمة التحرير والمشروع الوطني، والرغبة في عودة الأوضاع إلى سابق عهدها ما قبل انقلاب وسيطرة «حماس» على القطاع.
مع ذلك، لا يستهان بالدعم والتأييد الذي حظيت به «فتح» والذي إذا ما أُحسن استثماره سيتحول إلى قوة تغيير هائلة ورافعة وطنية كبرى لتحقيق الوحدة الوطنية واستكمال طريق النضال الوطني. وهذا يتطلب أن تدرس قيادة «فتح» هذا التطور الإيجابي الكبير لجهة إعادة تصحيح وبناء العلاقة مع جماهير «فتح» أولاً ومع الشعب بصورة عامة ثانياً، وهذا يبدأ من قطاع غزة الذي تعرض لظلم كبير ليس فقط من إسرائيل و»حماس» بل وكذلك من السلطة التي تتحمل «فتح» المسؤولية الأكبر فيها. وهناك حاجة ملحة للعمل وسط الجماهير في الضفة لأن التأييد لـ»فتح» والسلطة فيها انخفض بصورة كبيرة.
وللعمل مع الجماهير هناك حاجة أولاً لدراسة هموم ومشكلات ومطالب الناس، والعمل على الاستجابة لها بما يمكن من إمكانات، وطمأنة المواطنين بأن القيادة معهم، وتحس بمشكلاتهم وتوليها أهمية، وتعمل على حلها بما أوتيت من قوة وطاقة، على الرغم من أنها قد لا تملك معالجة الكثير من الأمور بسبب سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على المناطق المحتلة وسياساته العدوانية. وهنا يمكن ذكر مسألتين تؤثران على الرأي العام وهما محاربة الفساد وإعادة بناء المؤسسات على قاعدة صحيحة ومقنعة للناس، بما يضمن تساوي فرص المواطنين والاستجابة لحقوقهم، وإجراء الانتخابات العامة ليس فقط باعتبارها ضرورةً، خاصة بعد حل المجلس التشريعي ووجود فراغ دستوري أدى إلى غياب الرقابة والمحاسبة في السلطة التنفيذية، بل وكذلك لتجديد كل المؤسسات وضخ دماء شابة فيها، وهذا مطلب شعبي تتبناه بالأساس فئة الشباب المغيبة عن مستويات صنع القرار. والانتخابات لا يجب أن تنتظر موافقة إسرائيل، بل من الواجب جعلها قضية نضالية بامتياز، وفرضها على إسرائيل وكل من يعارض إنجازها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية