«ويصقلني كماس أميرة» هكذا كان يصف محمود درويش شعوره بالحب في قصيدة «فرِح بشيء ما» التي تغزل فيها بالحب وبأجمل ما قيل فيه من كلمات، فهل اختار زياد عبد الفتاح ذلك المقطع من القصيدة ليجعل عنوان كتابه  صاقل الألماس» والذي أصدره عن تجربته مع محمود درويش؟


يذهب السياسيون ويبقى الشعراء، هكذا قال الكاتب الروائي حنا مينا وهو يكتب التجربة الشعرية للشاعر التركي ناظم حكمت مستعيناً بحادثة التاريخ الشهيرة التي تحدى فيها الشاعر «كرمان» العسكري «تيمورلنك» الذي فتح سمرقند قائلا: يرتفع مجد الشعراء فوق نسور كل العسكريين ومراتب السياسيين. والتاريخ نقل إلينا تجارب كل الشعراء لكنه ألقى بالجزء الأكبر من حمولته من السياسيين والذين انتهوا لحظة نهاية حكمهم.


درويش كان ينحت كلماته من حجارة عتيقة بعمر المدائن القديمة والموانئ التي أصيبت ساعاتها بسأم الوحدة، لأن معارك البحر أصابها الصدأ والإعياء لتصاب بالهجران، وسيظل حاضراً باعتباره واحداً من الرموز الثقافية التي غطت من الصراع ما يقارب الأربعة عقود، بلغة وقصائد تتسمر أمامها لِما كان يخترع فيها من جمل وتراكيب لغوية وضعته في مصاف كبار الشعراء التاريخيين وعلى مستوى العالم.


حسن خضر صديق الشاعر والكاتب في «الأيام «والذي رافق درويش حتى مراحله الأخيرة، أصدر كتاباً أعاد فيه نشر مقالات درويش أو الجزء الأكبر والأهم منها، والتي كتبها في مجلة «اليوم السابع» التي تصدر في باريس، معتبراً أن تلك مرحلة مكثفة من مراحل التاريخ الفلسطيني، إذ يشعر خضر كما قال «أن نصوص محمود درويش كانت الصوت الأكثر تعبيراً ونفوذاً في صياغة معنى حضور شعبه في الزمان والمكان، وأحد كبار مهندسي الهوية وصناع الخطاب العام». لكن الأبرز في هذا السياق أن تحظى مجموعة مقالات كُتبت منذ ثلاثة إلى أربعة عقود بهذا القدر من الاهتمام، وهو ما يجيب عليه خضر بتواضع أن الفضل يعود لمحمود درويش، ولكن الزميل حسن خضر فعل الكثير ليستدعي من التاريخ الثقافي ما يمكن أن يزين حاضر الواقع ويضيء عتمة اللحظة.


أما الصديق الآخر الكاتب زياد عبد الفتاح الذي يضع تجربته مع درويش أمام القراء، وهو ما عايشه في أكثر المراحل الوطنية انفعالاً وأرقاً وأشدها ألماً وأملاً، وهي مرحلة حرب بيروت، وهو صديقه منذ زمن، ولكن لتلك المرحلة خصوصيتها لما حملت من فائض مكثف لتاريخ طويل حشرته في ثلاثة أشهر كان أثرها أن ينتج درويش أجمل قصائده السياسية «مديح الظل العالي» ورائعته الأدبية «ذاكرة للنسيان» وهي من أجمل ما كُتب في الأدب الفلسطيني من روايات.


قصة طريفة وردت في الرواية أن محمود وزياد أقاما وليمة شواء وسط الحرب، فكان الدخان يتصاعد من الشرفة غير آبهين بالموت، سألت زياد بعدها: كيف فعلتماها وسط القنابل؟ روى لي الحكاية أنهما فيما كانا يسيران في شوارع بيروت وأثناء القصف المكثف  لمحا قصاباً يعلق ضلع خروف، وكانت تلك مفاجأة، فأصر أن يشتريه وعادا إلى إحدى الشقق التي غادر أصحابُها ولم يجدا ما يمكنهما من الطهي ولا غازاً ولا غيره، فاقترح درويش حفلة شواء بتكسير كراسي السفرة، وهكذا كان.


ما قاله لي زياد أن ياسر عرفات كان وسط إدارته للمعركة شديد الحرص على محمود، كان يسأل عنه يومياً، وكان يوصي زياد عبد الفتاح بأن يحرص على حياة الشاعر، ويقول: إياكم أن نفقد محمود في الحرب. لذا كان الكاتب لصيقاً بالشاعر طوال فترة الحرب، وبالمعنى الشخصي كأصدقاء، وبالقرار الصادر عن القائد العام.


حسن خضر الذي ظل مع الشاعر حتى أيامه الأخيرة حين انتقل من غزة ليستقر مبكراً في رام الله كان قد روى لي فضل ياسر عرفات عليهما. فبعد حرب بيروت قرر ووفر لهما سكناً بأفضل الأماكن في تونس، وكان مهتماً بهما، وألا ينقصهما شيء، فقط أن يتفرغا للكتابة والقراءة. فقد كان لدى ياسر عرفات مشروع ثقافي، وكان يريد كُتاباً وشعراء كما كل دول العالم وأكثر. إذ يمكن القول إن عرفات أنتج حالة ثقافية تجاوزت حدود الوطنية والعربية حتى نحو العالمية، كان عرفات يخشى التصحر الثقافي ليكون المثقفون جزءاً من مشروعه الوطني، وربما التقيت كثيراً منهم جميعهم مدينون لياسر عرفات.


درويش ربما يكون أحد أبرز أدوات القوة الناعمة في مرحلته، حيث الكثير من شعوب العالم تعرف درويش كشاعر لا يمكن استثناؤه من أبرز شعراء القرن العشرين، وربما ليس تحيزاً لفلسطينيتي أن أقول إنه أبرزهم. فقد صنف بعض الكتاب أمثال «لوركا» و»ناظم حكمت» و»وبابلو نيرودا» ضمن ثلاثة شعراء القرن، وبالنسبة لنا قد يكون درويش الأول، ليس فقط لأنه يكتب بلغتنا ووصلنا شعره نقياً من شوائب الترجمة، بل لأن ما قرأناه من صور شعرية تضعنا في عوالم وروايات تتجاوز كلمات مسموعة بصوته أو محشوة في الكتب.
عبارة «حذوة الفرس التي طارت عن الأسوار»  مثلاً في «هواء الفراشة» لا يمكن المرور عنها دون أن نتخيل السور والفرس والمعركة والغبار والدم. كل تلك الحركة يضعنا وسطها درويش ليأخذ بيدنا نحو أزمنة وأمكنة هي جزء من خيالاتنا أو تصلح لتركيبها على روايات أخرى لمدن قديمة – اسبرطة – وطروادة – أريحا، كلها كانت تتشكل وتتعارك أمامه وكأنه الشاعر الذي كان يوثق كشاهد عيان كل مرحلة الصراع بالسيف ويعيدنا لعصر الفروسية وقيم الفرسان.


أحد عشر عاماً على الغياب، ما زال درويش الشاعر الأكثر حضوراً بيننا .... أحد عشر عاماً ما زالت ترتفع مشاهدات وسماع شعره على وسائل التواصل ..... أحد عشر عاماً ما زال أصدقاؤه الأوفياء يجمعون ما تناثر منه على صفحات الجرائد ويتذكرون تفاصيلهم وتراثهم الجميل برائحته ....... أحد عشر عاما ما زلنا نعشق درويش ونستمع له كوحي جاء من عالم آخر، يقرأ لنا ما تيسر لنؤمن بالوطن، بالحب والحياة أيضاً.


كان يحن إلى خبز أمه في المنفى، وأصبح حنينه الشخصي هو ذاكرة كل فلسطيني توزع في الشتات أو في السجون، وكانت تلك أغنية المعتقلين الأولى، لأن درويش كان يعكس ذلك الحنين، ليعتذر بعدها لأبيه لأنه لم يتزوج حتى لا ينجب ابناً يفعل به كما فعل الولد الشقي الذي غادر إلى المنفى ليقطع قلب أبويه، وقبلها حين كان يراجع الحاكم العسكري ليملأهم أرقاً وألقاً عليه، ويضعهم أمام خيارين؛ إما الأرق أو الإبعاد.


ما نشره حسن خضر وزياد عبد الفتاح الوفيان للأدب وللصداقة له قيمة كبيرة، إذ يعيدان جيلاً جديداً ابن زمن آخر لذلك الزمن الجميل المشبع بالأحلام الكبيرة وبالأمنيات، ويضيفان للمكتبة الفلسطينية والعربية ما هو جدير بالقراءة، فشكراً لهما..!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد