لم يَعُد خافيا على أحد ان كل ما يجري من تحركات سياسية في المنطقة برعاية امريكية وإسرائيلية ودعم من دول عربية ،هدفه الأساس هو تمزيق وتفتيت ما تبقى من اواصر اجتماعية وصلات ثقافية ودينية تجمع بين شعوبها .

فمن السودان الذي انقسم إلى شطرين ولم يزل في دائرة الاستهداف ،إلى اليمن الذي تتناهشه أيادي المقتتلين من أبناءه بدعم صريح من تحالف عربي أمريكي لا يخفي نواياه الشريرة ، وصولا إلى الجرح السوري ومحاولات التفتيت والنهب المستمرة منذ اكثر من ثماني سنوات ، وغير بعيد عن ذلك العراق ولبنان وليبيا ونار الفتنة والحرب تحرق الأخضر واليابس فيها ، والعامل المشترك لدي الجميع هو الدعوات المستمرة والتي تُعلن على الملأ وبدون خجل لتقسيم وتجزئة ما تبقى من جغرافيا قد تستر كثير من الخلافات العرقية والطائفية بين مكونات تلك الدول .

ولكن ما يحدث في فلسطين الحبيبة يفوق كل ما ذكرناه بكثير ، فهذا الوطن الصغير الذي يحتله شذاذ الآفاق من بني صهيون منذ عشرات السنين ، ويقيمون على اطلاله دولة لا تتقن سوى فن القتل والإرهاب والعدوان ، ويتخذون منه نقطة انطلاق لمهاجمة باقي مكونات الامة المنكوبة بقيادات وحكام لا يملكون من أمرهم شيئا ، هذا الوطن على أبواب المزيد من التقسيم الممنهج والمدروس ، وما يُعد له من خطط شيطانية منذ امد طويل تكاد تصل إلى نهاياتها السعيدة التي لا يتمناها القليل ممن تبقى من المخلصين والغيورين .

ففلسطين التي كانت يوما ما عزيزة على أبنائها ،ومهوى فؤاد امتها، أصبحت اليوم يتيمة يتهرب الجميع من مسئولية رعايتها او الحفاظ عليها ، فالعدو يحتل قسرا اكثر من 78% من أراضيها ويحاصر البقية، ويفرض حكمه على أكثر من 84% من مساحة عاصمتها الموعودة " القدس " ويهوّد ما تبقى ، هذه فلسطين التي يتعرض اهلها للقتل والتشريد والإبعاد منذ الانتداب البريطاني وما تلاه من احتلال صهيوني تعيش انقساما داخليا منذ عام 2007 م حوّلها إلى دولتين "عدوتين" للأسف الشديد !!

دولة في غزة بدون سيادة برا وبحرا وجوا ،وتتعرض لحصار خانق منذ اكثر من 12 عاما ، ودولة في الضفة تحاصرها المستوطنات من كل جانب ، وتنخر عظامها الشوارع الالتفافية، ولا تملك من امرها شيئا سوى ملاحقة من يفكر في مقاومة المحتل في إطار اتفاقيات "التنسيق الامني" والتي هي السبب الرئيسي لبقاء السلطة على قيد الحياة .

وبغض النظر عمن يتحمل مسئوليته ذلك الانقسام وما ادي إليه من مصائب وكوارث، إلا أن الإصرار على استدامته ووضع العوائق امام انتهائه ، هو اخطر واكثر تأثيرا من الانقسام بذاته، خصوصا والمنطقة تعيش حالة من إعادة التموضع وتغيير الاولويات ، والقوى الاستعمارية الكبرى ما زالت تذكّرنا بانها من يتحكم بتقسيم الجغرافيا رغما عنا كما حدث في اوائل القرن الماضي.

الجميع اليوم في فلسطين امام امتحان حقيقي ، والرسوب فيه يعني الدخول في حالة من الضياع والتيه لا يعلم مآلاتها إلا الله ، وربما تكون اكثر خطورة من مرحلة 48 او 67 ، ففي تلك الفترة كان هناك من يساند ويدافع ويحتضن ، اما اليوم فالكل مشغول بحاله ويقول نفسي نفسي !!

ربما استبشر البعض خيرا بدعوة السلطة للانتخابات التشريعية ، واعتقد آخرين أنها يمكن ان تكون مدخلا لترميم العلاقة بين شطري الوطن ، ولكن للأسف ما بدا بانه عامل توحيد في وقت ما ،يبدو انه تحول إلى صاعق تفجير آخر كالتي تمتلئ بها الساحة الداخلية الفلسطينية .

فبعد موافقة حماس والفصائل باستثناء "الجهاد " الذي يرفض المشاركة في إفرازات " اوسلو "على المشاركة في الانتخابات القادمة رغم الاشتراطات التي بدت تعجيزية في بعضها إلا ان المرسوم الانتخابي لم يصدر بعد ولا يبدو انه سيصدر قريبا .

السلطة برئاسة محمود عباس حاولت منذ البداية وضع الفصائل وبالتحديد حماس التي تعتبر القوة الاكبر التي تواجهها امام مشاكل كثيرة ، فرفضت تزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية ، ورفضت عقد اللقاء الوطني الساعي لتهيئة الاجواء الداخلية قبل إصدار المرسوم الانتخابي ، ومن ثم أصرت على تفعيل النظام النسبي الكلي وإلغاء القوائم ، تلا ذلك اشتراط الحصول على رد كتابي من حماس والفصائل بالموافقة على الانتخابات وعدم تعطيلها !!

كل ما سبق من شروط كانت كفيلة بتفجير العملية برمتها وهو ما كان يتوقعه البعض ولكن ذلك لم يحدث !! فحماس والفصائل الراغبة في المشاركة فهمت ما تسعى إليه السلطة ، وقررت رغم التنازلات الكبيرة التي قدمتها ان تفوّت عليها الفرصة ووافقت على كل شروطها ، ونفذت كل ما طُلب منها ، وبذلك كانت الاجواء كلها مهيأة لصدور المرسوم الانتخابي كما كان متفقا عليه،ولكن ذلك لم يحدث !! فقد برزت مشكلة اخرى هذه المرة ليس بيد حماس والفصائل القبول بها او رفضها .

السلطة تشترط الآن موافقة " إسرائيل " على إقامة الانتخابات في " القدس الشرقية " كما ينص على ذلك اتفاق " اوسلو " ، وترفض إقامتها بدون ذلك ، وبذلك اصبحنا امام وضع تتحكم فيه "إسرائيل" المأزومة سياسيا وعسكريا بعملية فلسطينية بحتة .

طبعا السلطة ترفع شعار ان إسقاط حق القدس في الانتخابات هو "خيانة" ، وحماس من جهتها لا تستطيع ان تطالب بهذا الأمر وإلا اتهمت بالتساوق مع الاحتلال !!

إذا نحن امام عائق كبير والمقرر بشأنه هو العدو التاريخي للشعب الفلسطيني ، ولا نعتقد انه يمكن ان يفوّت أي فرصة لتحقيق نقاط في ظل المعركة المستمرة بينه وبين هذا الشعب بغض النظر عن الطريقة.

ما نريد الوصول إليه ليس إجراء الانتخابات من عدمه فهذا ليس أولوية في ظل الاحتلال ، ولا اعتراف العدو بان من حق شعبنا ان يمارس خياراته في القدس الشرقية لان كل القدس وفلسطين التاريخية من حقنا ويجب ان نعمل على استعادتها !!

ولكن المهم هنا أن نتنبه لما يحاك ضد قضيتنا وشعبنا من مؤامرات ودسائس ، ويُستخدم من أجل الوصول إليها العديد من الوسائل ربما تكون الانتخابات إحداها، فإسقاط هذا الاستحقاق او تأجيله ربما يدفع البعض في غزة في ظل الشعور بعدم جدية السلطة، وممارستها في بعض الاحيان لسياسة التحريض والاستقواء، ربما يدفعهم إلى الاكتفاء بما تحت ايديهم من حكم هذا "الشريط الساحلي الصغير" ، والاعتماد على دعم بعض الدول كقطر وتركيا على سبيل المثال ، وبعض التسهيلات كإقامة ممر بحري وجوي وغيره من المشاريع ، وحينها يكون الحلم قد اصبح حقيقة ، وما سعى له الأعداء لسنوات طوال أصبح واقعا لا رجعة عنه !!

اكثر ما يُخيفنا هو انه يجري الإعداد بعناية لتقسيم المقسّم وتجزئة المجزئ !! فمشروع فصل غزة عن باقي الوطن لا تخطئه عين ، والدعوة إليه سرا وجهرا لم تتوقف منذ سنوات ، ودعم هذا المشروع ماليا وسياسيا من بعض الدول لا يخفى على احد !!

ولكن هل يسمح الشعب الفلسطيني بذلك !! هل ما تبقى من غيورين على مصالح هذا الشعب، ويقدمون في سبيل ذلك الغالي والنفيس يقبلون بهذا الامر !! هل ينتصر المخرز على الكف مجددا !!أم يفاجئنا هذا الشعب المبدع كعادته ويُسقط هذا المؤامرة إلى الأبد كما أسقط الكثير من قبلها !!

إن غداً لناظره قريب !!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد