العنوان الصادم الذي أعطاه الباحث الدكتور منير العكش لكتابه الذي يبحث في تشكيل الولايات المتحدة وبداياتها الاستيطانية لابد وأن يثير الكثير من التأمل عن تلك البدايات المستمدة من الميثولوجيا التوراتية والتي لم تكن فقط تشبه بدايات إسرائيل، بل إن التفاصيل المدهشة التي جاءت في طبيعة العلاقة بين المستوطنين الأوائل هناك والشعوب التي أطلق عليها الهنود الحمر جاءت تماماً تشبه العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو يمكن القول إن إسرائيل أعادت استنساخ التجربة التفاوضية معهم وصولا لتذويب قضيتهم.


اسم الكتاب «دولة فلسطينية للهنود الحمر» وهو في غاية الأهمية، يلقي الضوء على الاتفاقيات التي وقعها الأميركيون الأوائل مع الهنود الحمر والتي أقر فيها المستوطنون للهنود بإقامة دولة خاصة بهم، وجاء ذلك في اتفاقية «نورت بيت» والتي تشبه الى حد كبير ما جاء في اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويمكن للقارئ أن يجد غرابة في ذلك التشابه والأدهى من ذلك أن يقوم الأميركيون الأوائل بقتل الزعيم الهندي «وايت ايز» بالسم في حالة تشبه كثيرا شكل نهاية الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.


الأكثر غرابة أن يسمي الأميركيون الأوائل الدولة التي وعدوا بها الهنود الحمر بـ»دولة كنعان الهندية»، وهي التي وصفها وزير الحرب الأميركي أودين جيمس آنذاك بأنها مشروع طوباوي. لكنه في إطار التحايل على الهنود أرسل مندوبه «جون مايسون» ليقول لشعب الشيروكي الهندي، «هناك في وطنكم يا شعب الشيروكي سيكون الوطن لكم، وستكون لكم مؤسساتكم الخاصة وستنعمون بالأمان والرفاه».


بعد تلك الوعودات التي تلقاها شعب الشيروكي الهندي تم الاستيطان في أراضي الدولة المفترضة. وبعد ذلك الاستيطان تم دفع الهنود الى أوكلاهوما، ومن ثم اجتاح الاستيطان أوكلاهوما والتي مازالت تحتفظ باسمها والذي يعني بلاد الهنود بلغة «شكتاو» إمعاناً في السادية فلم يكلف المستوطنون أنفسهم حتى تغيير اسمها الهندي.


كان الهنود الحمر حينها مجموعات متفرقة ومتناحرة وتلك مفارقة أيضاً. ففي إحدى خطبه العام 1811 بعد أن بدأ خطر الاستيطان والاستيلاء على الأرض قال الزعيم الهندي الثائر «تيكومسة» أمام تجمع كبير من الهنود، «إذا اتحدنا فإننا سنصبح أقوى من الغزاة، وإذا تفرقنا لن نستطيع الصمود بل سيهزموننا ويسرقون أوطاننا ونتناثر كأوراق الخريف في الريح العاتية»، يبدو أنه كان شديد الحزن على التشتت والانقسامات التي تعصف بالهنود والتي كانت كلمة السر في ضعفهم وضياع بلادهم.


التفاصيل مروعة في التشابه بين الحالتين، خاصة أن المستوطنين الأوائل لأراضي الهنود الحمر استخدموا البعد الديني لتشريع الاستيلاء على أراضي الهنود، وللمفارقة كان من الكتب التوراتية والتي قامت على تشبيه الهنود الحمر بشعب كنعان والكنعانيين وهو ما دعاهم لتسمية دولة الهنود الموعودة بـ»الدولة الكنعانية».


تلك ليست من مصادفات التاريخ بقدر ما أن الأمر يتعلق بثقافة المستوطن وكيفية ممارسة الألاعيب على الشعوب الأصلية. وهنا فإن ما حصل للهنود يشبه تماماً ما حصل مع الفلسطينيين. وإذا كان الهنود الحمر على درجة من البساطة والسذاجة هكذا يتضح للباحثين والمتخصصين بإعادة نبش التاريخ فكيف وقع الفلسطيني في الشرك الذي وقع فيه الهندي الأحمر البدائي كأنه لم يقرأ التاريخ. وإذا كان الإسرائيلي تصرف تماماً كما الأميركي في بداياته، كيف كان الفلسطيني يشبه الهندي الأحمر في براءته حين وقع بحسن النوايا على كل الاتفاقيات السابقة.


وللمفارقة أيضاً، كلما كان يتم توقيع اتفاقية مع الهنود سرعان ما يخرقها الأميركي ويجتاح عسكرياً ويستوطن في المنطقة التي خضعت للاتفاق. وعندما كان يحتج الهنود كان الأميركي يطلب مفاوضات جديدة وإرسال وفد جديد للتفاوض وتوقيع اتفاقيات جديدة يتم خرقها، وهكذا الى أن استوطن الأميركيون كل الأراضي وبالقوة ولم يبق ما يتم التفاوض بشأنه لتتوقف المفاوضات منذ أكثر من مائتي عام ويتبدد الهنود الحمر.


تلك التجربة التاريخية حدثت مع منظمة التحرير في أوسلو وما تبعها من اتفاقيات، والآن تتكرر مع حركة حماس التي بدأت منذ سيطرتها على قطاع غزة بمفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل يبدو أنها تستدرج نحو تجربة الهندي الأحمر مرة أخرى، فقد تم الاتفاق أكثر من مرة على أكثر من اتفاق وكلها ذهبت أدراج الرياح والآن يجري الحديث عن مفاوضات وتهدئة أطول لا تبتعد كثيرا عن التجربة المشار إليها.


التاريخ مليء بالدروس والعبر لمن ينبش بين صفحاته، وهو مجرد من الأخلاق حيث الصراعات تأخذ شكل التوحش والتجرد من القيم والأبرز التجرد من حسن النوايا وهو ما وقع فيه تشمبرلين رئيس الوزراء البريطاني ذات مرة حين تعرض للخديعة من قبل هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية، والأهم أن للقوة منطقها في الصراعات وهي التي تفرض وقائعها، والغريب أن الأميركيين في البدايات كانوا يطالبون الهنود باحترام الوقائع على الأرض «وقائع الاستيطان»، ويبدو أننا بحاجة لقراءة الكثير من صفحات التاريخ بعد ما نسمعه من تصريحات للمسؤولين الإسرائيليين الذين أصبحت الدولة الفلسطينية بنظرهم مجرد «مشروع طوباوي».


لكن الزعيم الهندي الثائر «تيكومسه» أنهى خطابه التاريخي قائلاً لشعبه، «أدعوكم للإنصات الى صوت الواجب، صوت الشرف، صوت الطبيعة، صوت بلادنا المهددة، دعونا نشكل جسداً واحداً على قلب رجل واحد»، كان ذلك النداء الأخير للهندي الأحمر الذي يستحق أن نصغي إليه ونحن نقرأ تجربته حتى لا نصبح هنود حمر التاريخ الجدد...!!!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد