أينما تذهب في أوروبا تسمع السياسيين الأوروبيين يتحدثون عن لقاءات مع مجموعات فلسطينية مختلفة ومع قادة في منظمات سياسية غير رسمية، يقول فيها الفلسطينيون لنظرائهم الأوروبيين إنهم لم يعودوا يؤمنون بحل الدولتين، وإنهم يؤيدون حل الدولة الواحدة ويبررون ذلك بالموقف الإسرائيلي وما يقوم به الاحتلال على الأرض من تغيير حقائق، ومحاولة لسد الطريق في وجه قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وعندما نجري مطالبة الأوروبيين بدعم قيام دولة فلسطينية والاعتراف بدولة فلسطين تحت الاحتلال يقولون لك: هل لا تزالون تؤيدون مثل هذا الخيار؟ نحن نسمع أن غالبية الشعب الفلسطيني لم تعد تريده.
في الواقع هذا الحديث صادم ويعبر عن بلبلة نخلقها نحن على الأغلب بدون قصد، ولو كانت مقصودة فهذه طامة كبرى تلحق بالقضية الوطنية التي ترتكز في جوهرها على ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في الحرية والاستقلال الذي لا يمكن تطبيقه فعلياً إلا بقيام دولة فلسطين المستقلة تماماً عن الاحتلال، والتي ينبغي أن تقوم على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران من العام 1967، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين. وإذا كان من الطبيعي أن يشعر الفلسطينيون بالإحباط من عدم حل قضيتهم، ومن تراجع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، عن القيام بأي دور فاعل لحل الصراع، وأكثر من ذلك تمادي إسرائيل في مخططها الاستيطاني، وانتقالها من إدارة الصراع إلى محاولة حسمه نهائياً بضم ما تريد من الأراضي المحتلة، وترك الفلسطينيين يواجهون مصيرهم في ما تبقى، وأيضاً تحت الاحتلال بمختلف أشكاله ومسمياته، فهذا لا يعني التخلي عن هدف تقرير المصير، والتخلص من الاحتلال بصورة نهائية.
والأسوأ أن بعض الفلسطينيين لا يدرك أن الحديث الآن عن دولة واحدة يعني أمراً واحداً فقط، وهو إعفاء العالم أجمع من المسؤولية عن حل الصراع وتحقيق حل الدولتين، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلة لأن الدولة الأخرى قائمة فعلاً ومعترف بها، كما يعفي إسرائيل من الانسحاب من الأراضي المحتلة ويطلق يديها في مواصلة وتكثيف الاستيطان، على اعتبار أن الفلسطينيين لا يريدون دولة ويريدون الارتباط بإسرائيل. وهذه اللعبة الساذجة تخدم اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي لا يريد إنهاء الاحتلال وإخلاء الضفة الغربية، ويستطيع تفهم فكرة دولة واحدة ضمن مفهومه الخاص، وهي دولة تقوم في الضفة الغربية وإسرائيل بدون قطاع غزة ، ولا يحق فيها للمواطنين الفلسطينيين أن يمارسوا أي حقوق سياسية فيها، بمعنى توسيع مفهوم سياسة الفصل العنصري القائمة حالياً وشرعنتها بموافقة دولية وفلسطينية.
من يعتقد أنه إذا انتهى حل الدولتين وإذا تحرر العالم من الالتزام به ستوافق إسرائيل على دواة واحدة هو بدون شك واهم جداً، بل جاهل بطبيعة التفكير اليهودي الإسرائيلي، فالشيء الوحيد الذي يُجمع عليه الإسرائيليون كما اليسار إلى اليمين باستثناء أفراد معدودين جداً هو فكرة الدولة اليهودية التي من المفروض أن تكون دولة ذات أغلبية يهودية واضحة، بمعنى ألا يسمح فيها بدولة ثنائية القومية أو دولة ديمقراطية لكل مواطنيها. وجل ما يمكن أن تقدمه هذه الدولة للمواطنين الذين يجب أن يظلوا لفترة طويلة أقلية صغيرة هو حقوق متساوية لا تصل إلى الاعتراف بحقوقهم القومية. ومن يقرأ قانون القومية الذي تم سنه مؤخراً في إسرائيل يمكنه أن يرى بوضوح ما الذي تفكر فيه النخبة الحاكمة تجاه المواطنين غير اليهود الذين لا يلحظ القانون وجودهم أساساً.
وإذا كان هناك أحد يراهن على عنصر الزمن فهذا أيضاً يأخده الإسرائيليون بالحساب حتى في حال ضم الضفة الغربية، وهم في هذا يبنون على ترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من الضفة، وقد لا يحدث الترحيل بالقوة، ولكن سيتخذون كل السبل من أجل دفع الفلسطينيين للهجرة، كما يحدث الآن في قطاع غزة وأقل نسبياً في الضفة المحتلة. ويجب أن يكون واضحاً أن الحديث يأتي هنا عن طرفين غير متكافئين في القوة والقدرة على تنفيذ الخطط والبرامج.
لا يمكن التفكير بأي حل من قبيل الدولة الواحدة أو الفدرالية أو الكونفدرالية قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة وقبل تكريس الهوية المستقلة للشعب الفلسطيني في كيان خاص به وحده، والدولة القومية هي الإطار الوحيد الذي يمنحه ممارسة حقه الوطني بشكل متساوٍ مع شعوب العالم الأخرى. وبعد قيام وترسيخ هذا الكيان وتوطيده كمعبر عن الهوية الجمعية للشعب يمكن الحديث عن صور ارتباط أخرى مثل كنفدرالية أولاً وبعد ذلك أشكال أكثر اندماجاً وتوحيداً، وحتى اليهود الإسرائيليون يمكنهم التفكير بأشياء أخرى غير الدولة اليهودية بعد انتهاء الصراع وتغير شكل العلاقة مع الفلسطينيين، وهذا بحاجة إلى وقت طويل بعد قيام دولة فلسطين.
 من المؤسف أن نبدد جهودنا وجهود أصدقائنا الذين يدعمون حقوقنا الوطنية في الحرية وتقرير المصير والاستقلال في دولة خاصة بنا بالحديث عن أوهام لا يمكن تطبيقها على الإطلاق في واقع لسنا متساوين فيه ولا نملك القوة على تنفيذ أي جزء منه. فيكفي التعلق بالأوهام ولنفكر بإنقاذ حل الدولتين، ولنفعل ما يمكن داخلياً لتقوية أنفسنا بوحدتنا أولاً، ولنبدأ بالانتخابات وتوحيد مؤسساتنا وقيادتنا لكي ندير المعركة مع إسرائيل على حقوقنا الأساسية التي يعترف بها العالم ويؤيدها ولا بديل لها في المدى المنظور، ولنساعد أنفسنا وأصدقاءنا ليساعدونا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد