البيان الذي صدر أول من أمس عن مجلس الجامعة العربية حول القرار الأميركي باعتبار الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا يخالف القانون الدولي، كان مفاجئاً من حيث قوة الإدانة للموقف الأميركي، ومن حيث المطالبة بإجراءات رادعة لإسرائيل، وأخرى لإنقاذ قواعد التسوية السياسية والسلام والأمن في المنطقة والعالم، وهو يعكس غضباً واضحاً من السياسية الأميركية، وربما خيبة أمل شديدة. وهذا بالتأكيد ليس مصادفة.
ونص البيان كان قاطعاً وشديد الوضوح وتضمن أربع مسائل مهمة أولها رفض القرار الأميركي واعتباره "باطلاً ولاغياً وليس له أي أثر قانوني، وأنه مخالفة صريحة لميثاق وقرارات الشرعية الدولية بما فيها قرار مجلس الأمن 2334 لعام 2016، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لعام 2004"، وهو"محاولة أميركية مبيتة لشرعنة الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي من شأنها أن تجحف فعلاً بمبادرة السلام العربية التي تنص على انسحاب إسرائيل إلى خطوط عام 1967"، بالاضافة إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار 194.
المسألة الثانية هي توجيه إدانة شديدة للسياسة "الاستيطانية التوسعية الإسرائيلية بمختلف مظاهرها"، وشرح مخاطرها في منع إقامة دولة فلسطينية متواصلة إقليمياً والقضاء على حل الدولتين و"مطالبة المجتمع الدولي بتنفيذ جميع القرارات الدولية القاضية بعدم شرعية وقانونية الاستيطان الإسرائيلي". وأتبع هذه الإدانة بمسألة ثالثة تشكل لطمة شديدة للسياسة الإسرائيلية والأميركية على السواء بالدعوة إلى "حشد الجهود العربية على مستوى الحكومات والبرلمانات ومنظمات المجتمع المدني للعمل مع الشركاء الدوليين لاتخاذ إجراءات لمحاسبة إسرائيل على سياستها وممارساتها الاستيطانية"، وهذا يشمل الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية، والدعوة لمقاطعة بضائع المستوطنات ومنع دخول المستوطنين إلى الدول. كما دعت المفوض السامي لحقوق الإنسان إلى سرعة نشر قاعدة البيانات الخاصة بالشركات التي تعمل في المستوطنات.
وانهى مجلس الجامعة بيانه بدعوة جميع الدول التي لم تعترف بدولة فلسطين، باعتبار ذلك يساهم في انهاء الاحتلال وإنقاذ حل الدولتين ويعزز فرص السلام والأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. باختصار، كل فقرة في البيان كانت مصاغة بشكل جيد وقوي وواضح تعكس موقفاً عربياً ينسجم مع موقف الشعوب العربية. ولا شك أن لهذا الموقف العربي، الذي يعيدنا إلى فترات سابقة تميزت بقوة وتماسك الإجماع، تداعيات قد تكون مهمة في تصليب وتوحيد موقف الدول العربية من عمليات الإهانة والإذلال التي تتعرض لها على يد القوى الظالمة والمهيمنة في هذا العالم.
لأول مرة منذ فترة طويلة تتحدث الجامعة العربية عن حشد جهود الحكومات والبرلمانات ومنظمات المجتمع المدني لمحاسبة إسرائيل، ومقاطعة مستوطناتها وبضائعها، وكأننا في حالة صحوة عربية توقف حالة التدهور والهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل، ولا ندري مدى جدية هذه المواقف وهل ستنعكس على عملية التطبيع التي تقوم بها دول عربية وتتجاهل جرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والأمة العربية، أم أنها كلمات تستهدف المستوطنات فقط، ولا تطال دولة الاحتلال؟!
على كل حال، دعونا نفترض الأفضل وأن الدول العربية تريد فعلاً أن تغير سياستها تجاه إسرائيل وربما تجاه الولايات المتحدة. وهناك في الواقع أسباب وجيهة لذلك، فالولايات المتحدة الأميركية تهين الأنظمة العربية وتعتبرها مجرد صراف نقدي لتوفير ما تطلبه واشنطن مقابل تواجدها الاستعماري في المنطقة وخدمات تقول أنها تقدمها لحلفائها، سرعان ما اتضح أنها مزيفة وبعيدة عن البيانات الكاذبة لإدارة الرئيس دونالد ترامب التي تغير سياستها تجاه حلفائها بين ليلة وضحاها، ليس فقط تجاه الأكراد المساكين الذين باعتهم لتركيا حليفها المهم، بل وأيضاً تجاه أصدقائها العرب في الخليج الذين تخلت عنهم لصالح إيران بادعاء أنها لا تريد محاربة إيران حتى لو هاجمت دولاً عربية وإن كل ما بوسعها هو بيعهم السلاح بثمن باهظ وتأجيرهم أسلحة بطواقمها ثبت أنها لا تغني ولا تسمن وقت الحاجة، وعند اندلاع الحرب سيخرج الأميركيون من المنطقة.
والدول العربية تشعر بالخذلان جراء هذه السياسة ويبدو أنها في الطريق إلى سياسات مختلفة عن السابق، باتجاه تنويع العلاقات مع دول ومحاور ومجموعات دولية متعددة، وحتى تجاه إيران يبدو أن بوادر انفتاح أكبر تجاهها وربما تطبيع علاقات معها بدأ في بعض دول الخليج وقد ينتهي بالجميع في وقت ما. كما أن العلاقة مع إسرائيل التي اعتقدت بعض الدول أنها يمكن أن تشكل تحالفاً مهماً ضد إيران، بدأت في التراجع بعدما ثبت أن إسرائيل بالرغم من كل جعجعتها لا تملك مقومات الشريك الموثوق، وهي التي تتبع أميركا ولا تخرج عن نطاق سياساتها العامة. وبالإضافة إلى الإحراج الذي سببته إسرائيل للدول العربي التي فتحت أبوابها لها حتى لو بشكل ضيق. ورئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تباهى بالعلاقات التطبيعية مع الدول العربية وبالغ في ذلك بلغ النهاية وفي طريقه إلى السجن. وهذا قد يقود إلى تغيير ما يستدعي لغة مختلفة علها تقود إلى شيء ما إيجابي، خصوصاً في ظل ثورات الشارع العربي التي تضع الأنظمة في وضع صعب. فهل نحن نحلم بعودة الإجماع العربي على القضية الفلسطينية والتضامن العربي الشامل مع الشعب الفلسطيني. قد نكون نحلم، ولكنه حلم جميل عله يتحقق.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد