قام جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدى يومي الأحد والإثنين الماضيين بتنفيذ تدريب عسكري مفاجئ في القيادة المركزية أي منطقة الوسط التي تشمل الضفة الغربية المحتلة وهو الأول منذ عام 2012، وبالرغم من انكار اختيار التوقيت ارتباطاً بالوضع القائم المتوتر بين الفلسطينيين وإسرائيل لهذه المناورات العسكرية، التي شملت عدداً كبيراً من قوات الجيش النظامي والاحتياط، حيث تم استدعاء 13 ألف جندي احتياط، إلا أن طبيعتها تشير إلى العكس أي أنها مرتبطة اساساً باحتمالات انفجار الموقف على ضوء السياسة الإسرائيلية القائمة والتي يمكن أن تستمر وتذهب نحو الأسوأ إذا أعيد انتخاب اليمين برئاسة نتنياهو مرة أخرى للحكم في إسرائيل.
التدريبات التي أجراها الجيش الإسرائيلي، والتي لم تحظ بتغطية واسعة في وسائل الإعلام الإسرائيلية باعتبارها أمراً روتينياً، شملت قوات كبيرة من هذا الجيش وأذرعه المختلفة بما فيها سلاح الجو والمشاة والمدرعات والوحدات الخاصة والاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة، وكانت بمثابة محاكاة لوضع تندلع فيه مواجهات فلسطينية- إسرائيلية على غرار الانتفاضة الثانية، يحدث في إطارها صدامات واسعة مع الجماهير الشعبية وتنفيذ عمليات عسكرية ضد الإسرائيليين، وعمليات اجتياح للمدن والقرى الفلسطينية. وهذه تعكس تخوفات إسرائيلية من احتمالات التدهور إلى مستوى الانهيار الشامل للوضع الراهن بما في ذلك انهيار السلطة الوطنية وحدوث فوضى عارمة.
وينطبق على المناورات الإسرائيلية المثل القائل "ما أشبه اليوم بالأمس" بالعودة إلى الوضع الذي ساد عشية "الانتفاضة الثانية" وبالذات " انتفاضة النفق" في عام 1996 عندما حصلت مواجهات مع إسرائيل وعلى أثرها اضطر نتنياهو لتوقيع اتفاق الخليل، بعدها قام الإسرائيليون بتنفيذ سلسلة من المناورات أهمها جرى في عام 1997 والتي سميت آنذاك "حقل الاشواك" وكانت محاكاة لعمليات اجتياح للمدن الفلسطينية، حيث تم بناء نموذج لمدينة جنين وجرى التدرب على اجتياحها بل وتدريب وحدات من الجيش الأميركي على مثل هذه الاجتياحات تمهيداً لاحتلال بغداد، وقد كتبنا عنها في حينه، ولكن على ما يبدو لم تعر القيادة الفلسطينية هذا الأمر أي اهتمام وسمحت بتكرار تجربة "انتفاضة النفق" التي كان القرار الإسرائيلي بعدها عدم السماح باستخدام الفلسطينيين للقوة حتى لو أدى ذلك لتدمير السلطة وانهيار الاتفاقات بين الجانبين. وهذا ما حصل فعلياً عندما اجتاح جيش الإحتلال مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية وتم توجيه ضربة قاصمة للأجهزة الأمنية الفلسطينية ولمؤسسات السلطة الوطنية.
تدريبات الجيش الإسرائيلي هي انعكاس لتقديرات أمنية باحتمال وصول العملية السياسية الفاشلة اصلاً إلى نهايتها وذهاب الفلسطينيين إلى المؤسسات الدولية كخيار وحيد وبديل للمفاوضات العقيمة مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما يدفع الحكومة في إسرائيل إلى الإستمرار في سياستها العقابية ضد السلطة، ما قد يؤدي إلى انهيارها وسيادة الفوضى واندلاع المواجهات، مع العلم أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على خلاف مع الحكومة حول العقوبات التي تنفذها ضد السلطة الفلسطينية مثل عدم تحويل أموال الضرائب، لأنها قد تتسبب بانهيار السلطة وتشكيل خطر حقيقي على الأمن الإسرائيلي، وهي من وجهة نظر هذه الأجهزة تمثل لعباً بالنار لا تحمد عقباه. ومع ذلك هي تستعد لكل الاحتمالات.
التوقيت ليس صدفة أو عبثياً في هذه الحالة بل هو مرتبط بتطورات الوضع على الأرض والخيارات والبدائل المطروحة بما فيها ما يمكن أن ينجم عن العملية الانتخابية وعودة اليمين للحكم، أو استمرار الشلل السياسي والاندفاع نحو المواجهة السياسية في أروقة المنظمات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الميدانية في ظل هذه المواجهة، واليوم تبدو الأمور سوداوية فيما يتعلق بالعلاقة بين الطرفين المتصارعين بدون وجود أفق سياسي جدي، ولا توجد بشرى قريبة حتى لو أتى حزب ( العمل) بديلاً لحكومة "الليكود" وأقصى اليمين، فما يصرح به اسحق هرتسوغ زعيم ( العمل) بشأن القدس "الموحدة" التي يعتبرها عاصمة إسرائيل إلى الأبد، لا يحمل الخير لمستقبل عملية السلام. وهذا لا يلغي المواجهة بل ربما يجعلها تسير ببطء أكبر أو بحدة أقل.
لهذا ينبغي أخذ ما تقوم به إسرائيل على محمل الجد وهذا يشمل هذه التدريبات، ليس لجهة التراجع عن المواجهة مع الاحتلال سياسياً ودبلوماسياً وشعبياً بل لجهة عدم تكرار أخطاء الماضي القريب والعودة إلى مربع العنف واستخدام السلاح في المواجهات كما حصل في "الانتفاضة الثانية" التي جلبت لنا الفوضى وفوز " حماس " وانقلابها والانقسام البغيض، وجدار الفصل وتراجع المشروع الوطني على كل المستويات.
نحن حققنا انجازات مهمة على الساحة الدولية والاعتراف بدولة فلسطين أصبح عملية متسارعة لا يمكن وقفها أو التراجع عنها ومأزق الاحتلال يتفاقم، وعلينا ألا نخسر هذه الانجازات بقرارات متسرعة أو بنزق ردود الأفعال، فإسرائيل معنية بجرنا لمربع العنف والمواجهات المسلحة وهي تتفوق علينا في هذا، ولكنها ستكون أضعف بكثير في مواجهة الكفاح الشعبي السلمي والنضال السياسي والدبلوماسي الذي نحصد فيه نجاحات متتالية. ويكفي التعلم من تجربة قطاع غزة الذي تحول إلى ركام ودمار ومعاناة يومية في ظل حصار جائر نتيجة لسياسة حمقاء لا تملك سوى شعارات فارغة وكاذبة تأتي فقط لتزيين رغبة جامحة في الحكم والاستيلاء على الكعكة التي تتمثل بالنفوذ والسلطة والمال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية