انتهت جولة الأسبوع الماضي بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي بشكل مختلف عن التوقعات، فاغتيال قائد بهذا الحجم كان في الماضي يعني نزع فتيل الحرب.. هكذا كان العام 2014 عندما أقدمت إسرائيل على اغتيال أحمد الجعبري القائد العسكري بحركة حماس ولم تقبل حينها الفصائل بالوساطات إلا بعد إنهاك جميع الأطراف بعد 51 يوما، هذه المرة اغتالت إسرائيل درة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا .


الجولة كانت بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في ظل ترقب حركة حماس التي بقيت تنتظر دون أن تتدخل، ولو فعلت غير ذلك لكانت الحرب، وواضح أن «الجهاد الإسلامي» كانت ترى أن الأمور لا تشبه الجولات السابقة التي خاضتها مع إسرائيل وباتت تدرك حساسية الأمر أمام الوسطاء وأمام حركة حماس التي تنضج أكثر مع الحكم.


هذه المرة تصرفت «الجهاد الإسلامي» بعقلانية كبيرة، وهي الحركة التي لا تمتلك برنامجا سياسيا ولا يعنيها الحكم ولا السلطة سوى أن تستمر بالاشتباك مع إسرائيل وهذا هو برنامجها ودورها الوظيفي الذي حددته لنفسها «الجهاد الدائم»، بل وتستغل أي فرصة لتصعيد الاشتباك لا البحث عن التهدئة بل إن معظم التهدئات السابقة كانت حركة الجهاد تقبلها على مضض إكراما للإجماع وليس قناعة لكن الأمر كان هذه المرة مختلفا.


واضح أن القرار العقلاني ربما كان نتاج قراءة واقعية تماما لواقع غزة ، وربما أيضا نتاج ضغوطات مورست عليها وربما وصلتها رسائل، أو أن تكون قد أدركتها وحدها ومدى قدرتها على احتمال استدراج حرب تدميرية وقدرتها أيضا على تحمل مسؤولية دمار تلحقه الآلة الإسرائيلية على نمط 2014، صحيح أن «الجهاد» قادرة على فتح معركة ولكن الحقيقة أنها غير قادرة على تحمل تبعاتها ونتائجها.


هي الواقعية بمفهومها السياسي والتي تمارسها الفصائل تباعا لكن بفارق زمني مكلف حين تجد نفسها أمام واقع شديد التعقيد، وحين تجد نفسها أمام حجم المسؤولية وانعدام التوازن فتذهب لخيارات التبريد أو الهدنة أو التهدئة على عكس طبيعة الشعوب التي تقع تحت الاحتلال .. جميعها هادن بدءا من حركة فتح مرورا بـ»حماس» والآن «الجهاد»، فالظروف مختلفة والنصوص وليدة زمنها والأسلحة مختلفة والواقع مختلف ولا بديل عن قراءته والتعاطي معه وفقا للمصلحة والمسؤولية.


تلك هي الواقعية السياسية التي يتقدم بها طرف ويتعرض للهجوم من قبل الآخر ثم يلتحق به الآخر ليتعرض لما تعرض له سابقه ثم يلتحق الآخرون، هذا حصل مع «فتح» أولا ثم حركة حماس التي تعرضت لسيل من الانتقادات وهي تمارس واقعية اللحظة والآن تتعرض لها «الجهاد» من قبل الرأي العام الذي لم يقبل شكل التهدئة، فأن تكون مسؤولا غير أن تكون معارضا فكل ما يتطلبه وجودك في المعارضة هو أن تقول كلمتك وتمشي لكن للمسؤولية حسابات أخرى.


الرأي العام الذي يعترض على التهدئة هو نفسه الذي يطالب بها عندما تندلع الحرب، وهو من يدفع دوما ثمن مغامرات الفصائل ويتحول حين تبدأ الحرب إلى ناقم وناقد لذا لا يمكن الأخذ بأحكامه العاطفية شديدة التقلب فهو يطالب بالانتقام وهذا الفعل يليق بصراعات القبائل ولا يليق بالشعوب تحت الاحتلال ولا يليق بالعمل السياسي، وهذا ربما درس ينبغي الانتباه له عندما يجري الحديث دوما عن المزاج الشعبي والرأي العام و»ما يريد شعبنا».


لكن المعركة التي استمرت لثمان وأربعين ساعة وشكل النهاية التي يمكن ملاحظتها في النشوة التي سيطرت على تصريحات وزراء الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت وإسرائيل كاتس والأبرز سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وقع على الاغتيال مراهنا أن الحرب لن تحدث وهو ما كان يؤجله منذ عام خوفا منها، لكنه الآن كان يدرك أنه لن يؤدي إلى حرب وقد حصل.


إسرائيل التي لم يحاسبها أحد وتستخدم قوة مفرطة لا تتناسب مع التهديد القادم من غزة حتى عندما ارتكبت مجزرة في اليوم الأخير للحرب بحق عائلة أبو ملحوس التي أبيدت بكاملها، وحتى عندما أعلنت أنها أخطأت لم تجد أي اتهام على المستوى الدولي أو حتى انتقاد وكأن من قتلوا لا يستحقون إدانة جريمة قتلهم وتلك واحدة من حسابات السياسة والحرب.
لكن الأبرز فيما حصل ويحصل إذا كانت معارك قطاع غزة التي يخوضها بهذا الشكل وأيضا تتشابه نهاياتها وتتشابه أدواتها وقد حافظت على نفس المستوى من الخلل الكبير في التوازن لصالح إسرائيل، وتجري حسابات الخشية من الدمار الذي تلحقه الآلة الإسرائيلية والصمت الدولي ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن غزة أصبحت أمام خيارين إما القبول بواقع التفوق الإسرائيلي وهو ما يسمونه الردع، أو خيار الحرب والدمار.


وأمام هذا الواقع ومع استمرار الحصار سواء قامت الحرب أو التهدئة، فالموت والصمت والفقر يلاحقها، يبقى الحديث عن المعارك المسلحة المحكومة بثنائية المعادلة مدعاة لتفكير أبعد، ثنائية الردع أو المغامرة وكلاهما لا يحتمله القطاع بغض النظر عن الرأي العام وعاطفته التي يمكن أن تتسبب في انتحاره. لكن حسابات السياسة لها بعد مختلف وحين تصبح أسيرة معادلات صعبة يصبح التفكير في المستقبل حاجة ضرورية من أجل شعب أنهكته الحروب بلا جدوى ولم يعد يجد غير الحكم وحساباته التي أصبحت بوصلة السياسة لدينا، وهنا مقبرة القضية فالسلطة والمقاومة لا يلتقيان هل نفهم؟ اسألوا حركة فتح وكذلك اسألوا حركة حماس والجواب الآن بمرارة لدى «الجهاد» ..!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد