على عدة عقود أعقبت هزيمة حزيران تمكن الخطاب الديني من غزو النسيج الاجتماعي والثقافي والنفاذ إلى تلابيبه المتشعبة، وتكرس هذا الخطاب وترسخ في المؤسسات الرسمية وخصوصاً مؤسسة التعليم، وتحولت دور العبادة إلى مراكز للحشد والتنظيم ومأسسة العمل "الاجتماعي" للتيارات الدينية وتحولت إلى منظمات سياسية تسعى للسلطة السياسية باسم الدين ونيابة عنه.
وبعد نجاح الثورة الخمينية وامتداد تأثيرها في المحيط الإقليمي وبدء الصراع على "أسس" مذهبية وظهور معركة التمثيل الرسمي للمذاهب، ظهرت الحركات الجهادية التي تتبنّى أيديولوجيات التمذهب والطائفية، ومع تحول التنظيم الأكبر لـ"الإسلام السياسي" (الإخوان المسلمين) نحو "الحزب" السياسي، وصراعه من أجل الظفر بالسلطة، وما أدى به ذلك إلى "توليد" عشرات المنظمات العنيفة والمتطرفة والتكفيرية في ظل تراجعات كبيرة في الفكر القومي ثم اليساري بدت المنطقة وكأنها "تستسلم" لهذا الطوفان، وانتعشت المذهبية والطائفية وانحازت قطاعات واسعة لمناصرة هذا السيل الجارف.
ظهرت في العالم العربي الفضائيات التي تروّج للتمذهب والتطرف، ثم المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي أخذت حصتها من هذا "الاجتياح"، في ظل ثورة المعلوماتية والتواصل الاجتماعي.
تحول "التمسُّح" بالأفكار المذهبية والتدينية والطائفية وكافة أشكال الواقعية السياسية الجديدة، إضافة إلى وقوع الكثير من القوى اليسارية [صاحبة المشروع الأصلي للعلمانية] في شرك التحالف مع هذه الفئة أو تلك، وهذا التيار أو ذاك من الإسلاموية الجديدة في كامل منطقة الإقليم.
من المحاباة للخطاب الديني، وصولا إلى منافقته والتستر في كثير من الأحيان على أطروحاته البغيضة، ناهيكم طبعا عن ممارساته ضد كل أشكال الحضارة والتنوير والحداثة.
انكشفت المذهبية والطائفية الدينية في شكلها العنيف والإرهابي بقدر ما يتعلق الأمر بالتنظيمات "الجهادية المسلحة" التي حكمت على الدولة بالدمار، وعلى المجتمع بالكفر والزندقة، عندما تحول مشروعها إلى إقامة الدولة الدينية أو الإمارة الدينية المذهبية، أو إلى أدوات مباشرة للقتل حيث امكن، والفتك بكل ما هو متوفر من إمكانيات، وتمت استباحة "الخصوم والأعداء" بأحط أشكال الإرهاب خسّة ونذالة وبطشا.
لكن المذهبية والطائفية وحماة ورعاة الدولة الدينية ما زالوا يمارسون أيديولوجيتهم وأفكارهم داخل بعض المؤسسات الرسمية، وخصوصاً في قطاع التعليم، كما أن جزءاً منهم تبنّى مشاريع للمقاومة والممانعة حجبت عنهم صفة الطائفية السافرة أحياناً، و"أغرت" بعض القوى المتدرجة في هذه المشاريع بالتحالف معهم، أو التماهي مع أطروحاتهم، متنازلة بذلك عن هويتها الفكرية، والتضحية بها، وتقديمها قرباناً لتحالفات "سياسية" تبعث على الحيرة والاستغراب.
ومع ان لكل بلد عربي خصوصياته وبواعثه الملموسة لعلاقات التوازن السياسية حيال مسألة السلطة السياسية، والمواقف منها، إلا ان محصلة عقد كامل واكثر من هذا الاجتياح هي هزائم وانحسارات وتراجعات وأزمات باتت تعاني منها كل هذه التنظيمات الإسلاموية على مختلف أشكالها وتصنيفها ومواصفاتها في ظروف كل بلد وفي كامل الإقليم.
بطبيعة الحال لا يمكن أن نساوي بين من يقاوم الولايات المتحدة وإسرائيل وبين من يعاونهما ويساندهما، كما لا يمكن المساواة بين أنصار الدولة الدينية السافرة وبين أنصار "تطعيم" الدولة بمرتكزات أساسية إسلامية.
كما لا يمكن اعتبار "الإسلام السياسي" المتطرف المباشر مساويا تماما لـ"الإسلام السياسي" الذي يحاول جاهداً ان "ينحت" خطابا "وسطيا" أو "معتدلا".
لكننا مع ذلك ومع أهمية كل ذلك، نستطيع أن نُجمل باطمئنان أن الخطاب الديني السياسوي، والخطاب المذهبي والطائفي الخارج من "رحم" الأول، والمتفرع عنه، والمنتمي لثقافته وأيديولوجيته الأصلية هو خطاب يهدد الدولة الوطنية، ويهدد وحدة المجتمع، وهويته الوطنية، ويعبث بالنسيج الوطني والاجتماعي لصالح الفئات المذهبية والطائفية.
وبقدر ما يكون النظام السياسي في الدولة الوطنية فاسداً واستبدادياً فإن قدرة هذه الجماعات على التأثير تظل كبيرة، أو أن مساهمتها في التغيير الاجتماعي والسياسي قائمة وواردة.
أما حين ينحصر الفساد والاستبداد، أو يفقد قدرته المطلقة على الحكم والتحكم ينحصر هذا التأثير ويتراجع دور كامل التيار.
ولكن المصيبة الكبرى والطامة بعينها عندما تكون الطائفية والمذهبية والإسلاموية السياسية هي نفسها غطاء الفساد والاستبداد أو أدواته المباشرة، وعندما تتحول عملية النهب المنظم للثروة إلى إحدى مهمات العمل الرئيسة لهذه الفئات والتيارات المتسترة وراء الدين أو المذهب أو الطائفة.
الأحداث التي تمر بها المنطقة هذه الأيام ما زالت برسم تطورات كثيرة على المستوى السياسي، أما اذا اردنا ان نقرأ هذه الأحداث في مدلولاتها المنظورة فالأمر يحتاج إلى النزول عمقاً وعمودياً لاستشراف المستقبل.
لا حلول وسطا بين العلمانية الواقعية (النابعة من خصوصيات المجتمع أو المجتمعات العربية) وبين بقاء الدولة والمجتمع تحت هيمنة وسطوة الإسلاموية السياسية والمذهبية والطائفية، تماماً كما لا حلول وسطا بين الاستقرار السياسي والاجتماعي وبين بقاء النظام السياسي الفاسد والمستبد.
أحداث لبنان والعراق كشفت أن المعركة على هذا الصعيد أصبحت واضحة، وأحداث أخرى في تونس والجزائر والسودان لا تخرج عن هذا السياق أو ذاك من المعادلة أو كليهما، وأحداث أخرى ستأتي ستثبت أن المواطنة ستعود لكي تتربع على عرش القيم السياسية والاجتماعية والثقافية.
المواطنة بما تعنيه من حريات وحقوق ومشاركة، وما تمليه من مسؤوليات وواجبات في عملية صراعية متواصلة على أساس عقد اجتماعي يتسع للصراع المتواصل ولكنه لا يسمح بالخروج عن هذا العقد. وعند هذه النقطة فقط نكون قد دخلنا إلى العلمنة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد