إذا بدأنا من لبنان، فإن المشهد بات ينطوي على الكثير من التطورات التي ستفضي إلى المزيد من التعقيد، وربما إلى المزيد وهذا هو الأرجح من الأخطار التي يمكن أن تذهب بالبلاد إلى حوافّ الحرب الأهلية إذا لم تتم وبسرعة ودونما أي إبطاء "الاستجابة" لمطالب الهبة الشعبية العارمة في لبنان.
الحد الأدنى "المقبول" لهذه الهبة هو استبدال هذه الحكومة بحكومة كفاءات وطنية مستقلة إلى حين تنظيم انتخابات مبكرة على أساس قانون انتخابي أكثر عدالة أو أقل إجحافاً، أو قانون يتجاوز المحاصصة السافرة باتجاه أن لا تظل هذه المحاصصة عبئاً على البرامج الإصلاحية لحالة الاقتصاد اللبناني المتردية، والتي تدهورت في السنتين الأخيرتين على وجه التحديد.
لماذا نقول إن الهبة الشعبية لا يمكن في المدى المنظور ـ كما أرى ـ ان تذهب الى ابعد من ذلك، او تحقق ما هو اعلى من ذلك؟
الجواب ببساطة لأن الطبقة السياسية كلها (كلّن يعني كلّن) يمكن ان تخضع لنتائج من هذا النوع درءاً للمغامرة بكل شيء ان هي [اي الطبقة السياسية كلها] تعنتت امام مطالب الهبة الشعبية، أو ان هي لجأت لتدوير اللعبة الطائفية وذلك ادراكاً من هذه الطبقة ان توجها كهذا قد يؤدي إلى حالة فوضى شاملة قد تعيد المسألة اللبنانية الى حرب اهلية في بلد يواجه شبه انهيار اقتصادي، ويواجه اخطر ازمة سياسية منذ العام 1958.
وهنا لا بد من توضيح العلاقة التي تربط بين هيمنة الطبقة السياسية في لبنان وبين الواقع الاقتصادي فيه. الاقتصاد اللبناني تخلى بشكل كامل او شبه كامل عن معظم نشاطاته الانتاجية لصالح قطاع الخدمات، وخصوصا المصرفية منها، وتحول مع مرور الزمن الى اقتصاد ريعي صرف.
الطبقة السياسية وحاشياتها ومحاسيبها كانت تستثمر في المحاصصة السياسية، وتقتسم عوائد الريع فيما بينها كواجهات سياسية واجتماعية للطغم المالية المسيطرة على الاقتصاد اللبناني، وبارتباط مباشر بين اعوان الطبقة السياسية ومنظومات السيطرة الاقتصادية لهذه الطغم.
وهكذا تشكلت في الواقع اللبناني مافيات سياسية متحالفة مع الرأسمال الكبير، وتحولت إلى واجهات سياسية له.
يستحيل في واقع الأمر اليوم أن تتم فكفكة هذا التحالف دفعة واحدة، والممكن الوحيد هو وضع حد ما للنتائج التي ترتبت على هذا التحالف، بما هي عليه من افقار منظم ومستمر لغالبية الناس، الذين ينتمون لهذه الطوائف في هيئة طبقات سياسية، انفصلت عن غالبية الناس وأصبحت بمثابة امتيازات ممأسسة للطبقات السياسية وحدها، أو حكرا عليها وعلى حاشياتها والحلقات المحيطة المباشرة بها.
باختصار كنا امام تحالف بين بيروقراطية الطوائف والرأسمال الكبير، واليوم لم يعد ممكنا استمرار هذا الواقع الا بالتنازل من قبل طرفيه لصالح عملية اقتصادية تنموية جديدة تحد من سطوة هذا التحالف وهيمنته المطلقة.
ولهذا فإن الممكن هو انزواء معين، وانكماش مفروض على الطبقة السياسية في لبنان، و"الاكتفاء" بحصة من وزن القرد أو الحمار وليس من وزن الأسد.
وباختصار ايضاً، هذا "الريع" اذا لم تتم اعادة توزيعه بحيث يحصل الناس على قسم كبير منه لصالح عملية اصلاح جدية وحقيقية، فإن مصير هذه الطبقة كلها يصبح في مهب الريح، وأما الرأسمال الكبير والذي هو طغمة مالية مسيطرة سيخسر كل شيء اذا تعنت وأوصل البلاد الى اتون الحرب الاهلية الجديدة.
كل الطبقات السياسية لها ارتباطات اقليمية ودولية منذ العام 1958 وحتى الآن، هذا اذا لم نقل ان للمسألة جذورا تاريخية ابعد.
السنّة كانوا مع حلف بغداد، ثم مع عبد الناصر، ثم مع العربية السعودية، والمارونية السياسية كانت على علاقة مباشرة مع الغرب ومع فرنسا على وجه التحديد، والشيعة كانوا موزعين بين الولاءات الى أن جاءت ثورة الخميني، واما الدروز فقد راهنوا دائماً على البعد القومي العام دون ارتباط مباشر بصورة خاصة نظرا لخصوصية تواجدهم في لبنان.
العلاقة بين حزب الله وامل بايران تبدو فاقعة وخطيرة بسبب قوتهم في المعادلة الراهنة، وبسبب ما يملكونه من قدرات عسكرية متفوقة بالمقارنة مع الآخرين.
تتوزع المارونية السياسية الآن ـ منذ عدة سنوات ـ بين التحالف مع الشيعة (التيار العوني) والتحالف مع السنّة (القوات والكتائب) بسبب ما أحدثه التواجد السوري ثم انسحاب سورية من لبنان من ترتيبات وتحالفات جديدة، وبسبب قوة وتأثير العامل السوري في المعادلة اللبنانية.
أما في العراق فما زالت الهبة الشعبية شيعية الطابع من الزاوية الجغرافية والديمغرافية ولكنها وطنية وعروبية التوجه بعد ان "كفرت" بفساد الطبقة السياسية الشيعية التي تتحالف مع ايران، وتدين للولايات المتحدة في نفس الوقت بالولاء والارتهان.
الجيش في لبنان يمكن ان يتدخل للفصل و فتح الطرقات، اما في العراق فإن الطبقة الفاسدة الحاكمة والتي باتت تدرك استحالة قبولها من جديد من باب هذا التحالف وهذا الارتهان، على استعداد ـ على ما يبدو ـ لقمع الهبة الشعبية قبل "استفحالها"، علما أن هذا القمع بالذات هو مقتل هذه الطبقة، وهي ان لم تتراجع عن القمع المباشر فإنها تغامر بأكثر وأبعد من مجرد محاسبات وملاحقات قضائية أو تغييرات سياسية جدية.
التماثل ما بين بيروت وبغداد هو الطابع الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي للهبتين، وعلاقة تردي الاوضاع فيهما باستبداد الطبقة السياسية وهيمنتها، وإدارة ظهرها بالكامل لاحتياجات الناس ولقمة عيشهم.
وأظهرت الهبتان ان ثمة علاقة عضوية وحية ومباشرة بين واقع الناس على المستوى المعيشي وبين هيمنة الطبقة السياسية التي تستثمر في العلاقات الطائفية، والامتيازات التي توفرها لها هذه العلاقات.
في الحالة العراقية هناك خطر المليشيات، ويتماثل التفكير باللجوء إلى اللعب على البعد الطائفي كما في لبنان ولكن الاختلاف الأهم والأكبر بين الهبتين هو أن الهبة اللبنانية شعبية شاملة، وعابرة للطوائف كلها، في حين ان الهبة في العراق ما زالت "جنوبية" وشيعية حتى الآن.
قد تكون هذه ميزة ولكنها لن تتحول إلى قوة تغيير حقيقية قبل أن يكتمل القوس الوطني لهذه الهبة، لأنه لا يعقل أن لا تكون الطبقة "السنّية" في العراق خارج نطاق الفساد، وان لا تكون مناطق "السنّة العراقية" تعاني من سوء الأوضاع المعيشية شأنها في ذلك شأن أشقائهم في بغداد والجنوب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية