يفتخر الفلسطينيون بأول أسير فلسطيني في سجون إسرائيل، بعدما أصبح أيقونة ورمزاً نضالياً في مواجهة العدو، غير أن المفارقة السوريالية هي عندما يتذكر الفلسطينيون أن أول معتقل سياسي فلسطيني لدى السلطة الوطنية الفلسطينية، هو الراحل الدكتور إياد السراج، أحد رموز المجتمع المدني والعمل الأهلي الفلسطيني. فالمجتمع المدني قبل وصول السلطة، شكّل حكومة ظل في زمن الاحتلال الإسرائيلي، وكان الدكتور حيدر عبد الشافي وأسماء أخرى، قيادات هذه الحكومة ورموزها، ويتذكرها الفلسطينيون ويترحمون عليهم. فمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني عمرها أكبر من عمر السلطة الفلسطينية ولها تاريخ عريق من العمل في صفوف الناس، ولا تزال حتى الآن تلعب دوراً مهماً في النضال على مستويات عدة داخلياً وخارجياً، وملاحقة المسؤولين الإسرائيليين قضائياً من خلال خبرتها وتجربتها الطويلة.


تزداد وتيرة ما تواجهه منظمات المجتمع المدني الفلسطيني من قيود وعراقيل وصعوبات يوماً بعد الآخر لتشديد الخناق على عملها.  وتستهدف السلطة السيطرة على هذه المنظمات وإخضاعها لسياستها والحد من استقلالها، في مقابل ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية من هجوم مستمر ضد مؤسسات المجتمع المدني، وبخاصة مؤسسات حقوق الإنسان، والتشكيك في صدقيتها وتجفيف منابع تمويلها. السياسة التي تتبعها السلطة الفلسطينية، اشتدت في الضفة و غزة بعد الانقسام الفلسطيني الذي شكل حافزاً لاتخاذ المزيد من الإجراءات والقيود لقمع الحريات والعمل المدني.


الفلسطينيون خاب أملهم من السلطة الفلسطينية، وكانوا يأملون بأن بإمكانهم تشكيل نظام سياسي مختلف عن معظم الأنظمة العربية، قائم على قيم العدالة والمساواة والحرية، واتباع ممارسات ديموقراطية، غير أنه منذ قيام السلطة، اتخذت خطوات غير ديموقراطية وتقيّد الحريات وحقوق الإنسان، ولم تخلق نموذجاً حقيقياً ومغايراً لتلك الأنظمة.


اعتقد الفلسطينيون أن قياس مدى قيام السلطة الوطنية باحترام القانون والحريات العامة هو قدرتها على احترام حرية منظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي، إلا أن السلطة لم تعترف بأي أجسام أخرى غير جسمها المترهل والفاسد في كثير من أجزائه. كما أفردت مساحات واسعة للوزارات والأجهزة الأمنية للتحكم في مصير منظمات المجتمع المدني ونشاطاتها على اختلاف تخصصاتها وجهات ترخيصها طبقاً للقانون الفلسطيني، سواء كانت جمعيات أهلية أو شركات غير ربحية. وتتعرض هذه المنظمات أيضاً للابتزاز والرقابة الأمنية المستمرة على نشاطاتها ومهماتها.


وتواجه منظمات المجتمع المدني تحديات متزايدة، بسبب التشريعات والإجراءات التي تمس عملها وتهدد وجودها واستقلالها، إضافة إلى القيود المالية على الشركات غير الربحية، باعتبارها من مكونات المجتمع المدني، وما تمثله هذه القيود من انتهاك للحق في تشكيل الجمعيات.


اعتقد الفلسطينيون أن قياس مدى قيام السلطة الوطنية باحترام القانون والحريات العامة هو قدرتها على احترام حرية منظمات المجتمع المدني والعمل الأهلي، إلا أن السلطة لم تعترف بأي أجسام أخرى غير جسمها المترهل والفاسد في كثير من أجزائه.


وعلى رغم التحذيرات التي تطلقها منظمات المجتمع المدني والاجتماعات التي عقدتها مع رئيس الوزراء في حكومة رامي الحمد الله السابقة أو حكومة محمد اشتيه، إلا أن الحكومة ومنذ عامين بخاصة وزارة الداخلية في رام الله مستمرة في فرض مزيد من الإجراءات، منها تجميد حسابات عشرات المنظمات الأهلية في قطاع غزة، أو الضغط على الجمعيات لتغيير أعضاء مجالس الإدارة وبعض العاملين فيها، وما لذلك من تداعيات خطيرة على واقع المنظمات الأهلية وعملها في قطاع غزة.


وتم تجميد حسابات عدد من الجمعيات في المصارف العاملة في قطاع غزة، الأمر الذي يهدد الخدمات التي تقدمها ويقوض التزاماتها تجاه قطاعات المستفيدين والموردين والممولين ويعرقل عملها في تأدية دورها في تعزيز صمود المواطن الفلسطيني.
 
كما أن هناك مصارف في قطاع غزة ترفض فتح حسابات للمنظمات الأهلية المسجلة حديثاً، على رغم حصولها على شهادات التسجيل المطلوبة من وزارة الداخلية في رام الله، الأمر الذي يقوض حقها في الحصول على حساب مصرفي، كما نص عليه قانون الجمعيات الخيرية والهيئات الأهلية رقم (1) لعام 2000.


تلك الإجراءات تنفي تصريحات رئيس الوزراء واشتيه عن علاقة الشراكة بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، وتنتقص من القانون الذي يؤكد حماية الحق في تشكيل الجمعيات وضمان استقلالية عملها.


إن تعامل السلطة الفلسطينية مع منظمات المجتمع المدني بهذه القسوة يعني أن المنظمات مشبوهة، ويضعها في دائرة الشك والأجندات الخارجية كما تردد السلطات غير الديموقراطية، وهي بحاجة مستمرة لتقديم كشف حساب، وفقاً لرؤية النظام وأجهزته الأمنية التي تفرض سطوتها وتغولها على المجتمع.


منظمات المجتمع المدني ومن بينها الجمعيات الأهلية والخيرية تعمل وفق قانون الجمعيات الفلسطيني، وتقوم الوزارات المختلفة بالرقابة والتدقيق في عملها وتتخذ الجمعيات إجراءات شفافة في عملها من خلال نشر ميزانيتها للعلن، سواء على مواقعها الإلكترونية أو من خلال مؤتمرات سنوية. وهي تحصل على تمويل واضح ومكشوف ومن دول معروفة وتعلن عن تقاريرها السنوية، وهي ليست ضد أي إجراءات تضمن الشفافية والمحاسبة، وتطوير أداء المنظمات الأهلية وتعزيز التزامها بما نص عليه القانون.


مصارف في قطاع غزة ترفض فتح حسابات للمنظمات الأهلية المسجلة حديثاً، على رغم حصولها على شهادات التسجيل المطلوبة من وزارة الداخلية في رام الله
الإجراءات المفروضة ضد المنظمات تخضع خلالها المؤسسة لشبه تحقيق وفحص أمني كامل، وتدخل سافر في عملها وإدارتها مواردها، ما يعطل عملها وخصوصيتها وحريتها في ممارسة نشاطها. كما أن الإجراءات التي أقرها مجلس الوزراء للموافقة على إعطاء تصريح للشركة لاستقبال التمويل تعسفية، لا حاجة لها في ظل الرقابة المفروضة من الجهات الممولة، وبخاصة عندما تكون جهات حكومية أجنبية أو مؤسسات مانحة عالمية بعيدة من شبهات غسيل الأموال.


منظمات حقوق الإنسان تعتبر تلك القيود والإجراءات بمثابة مساومة ضمنية للرضوخ وعدم مواجهة السياسات والممارسات الحكومية المناهضة لحقوق الإنسان وتقييد الحريات العامة والخاصة، وهي تدمر قطاعاً مؤثراً في المجتمع وتسيء إلى العاملين في المنظمات وتهددهم بباب رزقهم. وتطالب المنظمات السلطة الفلسطينية باحترام المواثيق الدولية التي وقعت عليها، والتي تتضمن الحق في تشكيل الجمعيات، بما فيها الشركات غير الربحية، بما يضمن حريتها واستقلاليتها في ممارسة عملها وحقها في الحصول على التمويل من دون قيود.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد