عبد الله.. شابٌ انتشل النجاح من تحت ركام أحلامه
ساعةُ الحائط المرسومة أرقامُها على شكلِ معداتٍ طبية، تشيرُ إلى الثانية بعد منتصف الليل؛ قبل بِضعِ ساعاتٍ من لحظة المصير، استلقى على فراشهِ، مشبكاً يداهُ خلف رأسِه، يجول في خاطرِهِ تفاصيل فرحةٍ كان يحلم بها: "واحدٌ من العشرة الأوائل في الثانوية العامة ( التوجيهي ) على مستوى فلسطين".
أغمض عبدالله عيناهُ وعلى محيّاه ابتسامة ناعمة كأنّها صلوات الطّيور، يتخيلُ نفسه وقد حقق حلمهُ في أن يصبح طبيباً جرّاحاً في مجال القلب، ذلك الحلم الذي يرقبه منذأن كان ابن تسع سنوات.
عند السابعةِ صباحاً قطع أبو عبد الله حبلَ أفكار ابنِه الدكتور عبد الله –كما يسميه-، موقِظاً إيّاهُ ليستعد لساعة الصفر.. نتيجة الثانوية العامة على حافة وصول، اعتدل عبد الله من نومه وبعد أن رد تحية الصباح على والده، فاجأه الأب بقوله: "شو ما كانت النتيجة قُل الحمد لله، الدنيا ما بتوقف على التوجيهي". كانت مقولة الأب صدمة للابن ولكن عبد الله رد: "تفاءلوا بالخيرِ تجدوه".
بعد برهةٍ من الوقت الذي مضى سريعاً استقام عقربُ الساعة على صورة سماعة الطبيب في الساعة المعلقة على حائط غرفة عبد الله، كانت تشيرُ حينها إلى التاسعة، وهنا جاءت المفاجأة "أثقل من كهلان" كما يقول العرب.. عبد الله رسبَ في مادتي الكيمياء والأحياء.
عمّ السكون الأرجاء، ولكن ذِهنُ عبد الله لم يهدأ، كان يصارعُ نفسه "كيف، لماذا، أين الخطأ، أين قصرت"، وأمام صمتِ الجميع عاد إلى فراشه يفكر فيما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيام، وانتهى به الحال إلى إعادة اختبارات الثانوية العامة في العام القادم.
مرت الأيام.. عاد عبد الله ينتظر نتيجته الثانية في امتحان "الإكمال"، التي وصلت إليه ليُصدم مرة أخرى بأنه راسبٌ أيضاً في الكيمياء والأحياء.
بعد شهرٍ من العزلة، قرر عبد الله أن يغيّر مسار حياته، فهو الآن بعد خمس سنواتٍمن الثانوية العامة متقن لخمسةِ برامج مونتاجٍ وتصميم تعلّمها بنفسه، وخمسةِ أنواعٍ من الخطوط العربية تعلمها أيضًا بنفسه، بالإضافةلتعلماللغة التركية بنفسه، وإنشائه لشركة خاصة بالإنتاج والتصميم، وتخريج أكثر من 50 متدرباً من دورات الخط.
غرفة عمليات
بدأت حكاية عبد الله مع حُلمه بدراسة الطب -تخصص جراحة القلب-عندما كان في الصف الرابع الأساسي، في ذلك الوقت عيّنه أحدُ أساتذته عريفًا لبرنامج الصحة المدرسية ومختبر العلوم في المدرسة، ليُلهم عبد الله بالمعدات الطبية من سماعات الطبيب والروب الأبيض وباقي المعدات.
يقول: "من بعد تلك الفترة التي كنت بها في برنامج المهن الصحية، أصبحتُ أتخيل غرفتي كأنها غرفةَ عمليات، فيها الهيكل العظمي لجسم الإنسان يكسوه الرداء الأبيض، وعلى الطاولة مشرط وملقط ومنظار...".
لم يكن عبد الله بذلك الطفل الساذج الذي أُلهِم بالطب وجراحة القلبِ عبثاً، إنما "لحاجة في نفس يعقوب"، كون الطب مهنة قيمة تمنحك تلك المكانة الموقرة "ملائكة الرحمة"، وعن اختياره لجراحة القلب يوضّح: "القيام بعملية إنعاش أو إسعاف لقلب متوقف عن الحياة نتيجة خلل ما، وإعادة الحياة إليه كان الإنجاز الذي أسعى إليه"
فلذة الكبد الأولى
الصبرُ عند المصيبةُ الأولى"، "وما يختاره الله للإنسان هو خيرٌ مما يختارهُ لنفسه"، عبد الله بعد أن أفاق من صدمة نتيجته وقف أمام هاتين العبارتين يهوّن بهما ما حلّ به، لكن في ذات الوقت كان شعوره بالمسؤولية كبير، لأنه الفلذة الأولى والابن البِكر لأبويه.
ولكن المفاجأة حقاً هي الآن؛ بعد أن اختار عبد الله طريقه وما وصل إليه، أنه يحمد الله على عدمِ تمكنه من دراسةِ الطب، ليس لأنه لم يتفوق في الثانوية العامة، بل إنما لأسبابٍ يراهاشكّلت فارقاً في حياته، ما كان سيتعلمها لو درس الطب.
فيقول: "الخمس سنوات التي مضت تعلمت فيها من تجاربي العملية ومن والدي ما لم يكن سيعلمني إياه الطب، إذ أن الطب عملية مستمرة الدراسة ومواكبة للعلم، فلن يكون هناك وقت لأتعلم أي إضافة جديدة، وأصبحت ممارساً ما أهوى بإتقان "التصميم والخط العربي"، ولكنت تغربت عن وطني وأهلي وأثقلت كاهل والداي بتكاليف الدراسة في ظل واقعنا الذي لا يخفى على أحد، فكل العقبات التي واجهتها في التوجيهي، اليوم أجني ثمارها باعتمادي على نفسي في كل مقومات الحياة".
راجل بركن عليك
الحياة بدأت تن فتح أمام عبد الله بفضل توكّله على الله أولاً، ووالده ثانيًا، فبعد رسوبه الأول والثاني، يئس من التعليم وقرر ترك الدراسة والتفرغَ لتعلم الخط العربي الذي كان يهوى كتابته منذ أن كان في الصف التاسع، ولكن جملة من الأب "السند" قد تبعثُ الروحَ وتنبتُ زهورَ الربيع في تلك النفس الذابلة.
بالصوت الذي ظهر به افتخار الاب بابنه، بيّن عبد الله أن والده حوّل محنته إلى منحه بقول والده له: "شو بدي من الحياة أكثر من إني أشوفك راجل بركن عليك؟"،فبعد قوله هذا عادتالعزيمة لعبد اللهلترتيب أولوياته ولإعادة مادتي الكيمياء والاحياء في امتحانات الإكمال"وبتنهد"واخيراً نجحت فيهم".
مفرق طرق
غيّر عبد الله خطة حياته بعدها، أعاد ترتيب أولوياته، فخلُص إلى تنمية موهبته في الخط العربي ليصبح كاتبًا ومدرّبًا للخط العربي، وتعلّم على برامج التصميم والمونتاج لتصبح هوايته وجزء من مهنته ومصدر دخله، ودخول عالم الصحافة كتخصص جامعي، وبجدارته كان له النصيب بأن يقف على منصّة الجامعة ليلقي كلمة الخريجين في حفل التخرج، وفي الطريق لنيل درجة الماجستير في تخصصه، لأنه أصبح موقنًابأنه في الطريق الصحيح، والحلم أصبح أكبر بالحصول على درجة أكاديمية عليا في المجال، ولا يستبعد أن يأتي اليوم الذي يكون فيه محاضر جامعي، أو مستشار إعلامي، أو حتى سفيرًا لبلده في أحد الأيام، بالإضافة لاكتساب مهارات الذكاء الاجتماعي من الاختلاط والتعامل مع فئة كبيرة من أفراد المجتمع.
اليوم عبد الله يدخل غرفتهممتلكاً لثلاث مهارات كإعلامي وخطاط ومصمم جرافيك شغوف بما يملك، يرى أمامه كل ما يمكن أن يريح النفس من ألوان وأقلام وشجر مرسوم على الجدران، "وأن أدخل غرفتي لأجد نفسي في عالم كنزهة للعيون منسحر الجمال مرسوم بالخط العربي والتصميم، لهو أجمل من أن أدخلها لأجد نفسي في غرفة العمليات التي كنت أطمح بها".
مخرج دورة تدريبيىة بعنوان (فن كتابة القصة الصحفية)