بالصور: عبد الكريم حرارة.. عصفور الجنة ترك طيره يشدو حزنًا
بسرعة ما إن انتهت صلاة الجنازة بعد الظهر مباشرة، توجه محمد صقر حرارة نحو جثمان فلذة كبده "عبد الكريم"؛ كي لا تختطفه الأيادي لتحمله على النعش، وهو يردد: "أمانة سيبوني أملي عيني منه"، ثم وضعه على راحتيه وضمه نحو صدره، وبخطوة تودع أخرى، والمواسون خلفه، مضى به مشيًا على الأقدام مئات الأمتار نحو "مقبرة تونس الخضراء" بحي الشجاعية شرق مدينة غزة ، وعيناه تطيلان النظر بوجهه؛ لتحفظه وترسخه في الوجدان أكثر.
نزل بجثمانه في القبر وهو يتجرع مرارة فراق قطعة من قلبه، ثم دكك التراب تحته ونقاه من أي حصى؛ ليدفئ بحنان جثمانه الذي خرج للتو من ثلاجات الموتى، وحاك من الرمل الناعم وسادة ليضعها تحت رأسه، ثم طبع على جبينه قبلة ورفع رأسه إلى السماء وهو يقول: "الله يرحمك وحسبي الله ونعم الوكيل".
استوقفته دمعة لمحها في طرف عين طفله الأكبر "محمد" أعادت إلى ذهنه أحداث ذلك اليوم، الذي همس فيه أحد الأطباء في أذنه: "6 أشهر.. وأخوه محمد سيلحق به". أغلق القبر وانفجر سيل من البكاء بعد كتمانه، وعلق على شاهده يافطة كتب عليها: "عبد الكريم رحل بلا ذنب" مع مطلع شهر نيسان/ أبريل لهذا العام، بعد أن تأخرت موافقة الاحتلال على سفره للعلاج بالخارج.
فتأثير القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تفاقم الأوضاع الصحية للمرضى الفلسطينيين في قطاع غزة، وأدت في كثير من الأحيان إلى الوفاة؛ بسبب عدم تمكنهم من الوصول إلى مستشفيات الضفة أو الداخل المحتل، في سياسة ابتزاز تتعمد فيها تأخير وصول كثيرين منهم للمستشفيات، وتحرم عددًا كبيرًا منهم من السفر للوصول إلى مستشفياتهم وتلقي العلاج، من خلال رفض منحهم التصاريح اللازمة، أو المماطلة في إصدار تلك التصاريح، وقد تسببت هذه الإجراءات في وفاة (9) مرضى خلال العام 2018، بحسب إحصائية لمركز الميزان لحقوق الإنسان.
رضيع بلا مرضعة
كُتب للطفل عبد الكريم أن ي فتح عينيه على هذه الدنيا خلال عام 2016 على واقع لم تقرره يداه.. لكنه "جاء وجاءت معه البركة"؛ كما يقول والده،علت الزغاريد وأصوات الطبول من منزل عائلة حرارة.. الكل فرح هنا والحلوى وزعت على الأهل والجيران وعابر الطريق.
لكن في اليوم الثالث بعد ولادته، يقول والده وكل اللحظات كشريط يعاد أمام عينيه : "بياض عينيه تحول إلى اللون الأصفر.. لم يعرف سببه في غزة لعدم توفر إمكانية إجراء بعض الفحوصات هنا".
عند تشعب المستشفيات، احتسبت العائلة كل دعواتها عند الله، ووحده يعلم المدة التي سيقضيها في معاناته غير المعروفة، وموعد بزوغ الأمل الذي ما كان ليأتي إلا إن رقّت قسوة بوابات معبر بيت حانون/ إيرز، أمام أوجاع عبد الكريم.
البداية كانت بمستشفى "النصر" للأطفال، حين أبلغ الأطباء والد الطفل عبد الكريم بقرارهم تحويله بعد نحو عدة أشهر، لإجراء الفحوصات المطلوبة بالخارج، لكونهم يشتبهون إصابته بمرض السرطان.. وكانت قد تشابهت الأيام بقسوتها وألمها ووقعها على قلب العائلة، كما يصف محمد، وكانت تتوق لصباح مشرق يغرد فيه طير -من غير البشر- بخبر سار يمسح الحزن عن جدار قلبها.
وذات صباح وهو ينظر من نافذة غرفة مستشفى "الدرة" للأطفال أثناء مرافقة طفله الأكبر محمد لعلاجه من نفس المرض، يذكر الأب محمد تمنيه لو يحمل طير على عاقته حمل عبد الكريم وأمه "منى" لترافقه إلى مستشفى المقاصد ب القدس ؛ لإجراء الفحوصات المطلوبة.
تحويلة حسب الرغبة
لقد صار عمر عبد الكريم 5 أشهر.. وأخيرًا حصل على تحويلة طبية لعلاجه في الخارج، لكنّ قطعت رسالة عبر الهاتف المحمول سكون الليلة التي اطمئن فيها قلب العائلة، كانت تحمل في نصها أن أمه "مرفوضة أمنيًا"، أتبعها اتصال يقول: "دبر أمورك وزودنا باسم بديل لمرافقته اليوم"، كان ذلك طلب الشؤون المدنية منه، فاختار جدته لترافق طفله الرضيع، حسب والده.
عبد الكريم في استضافة القدس لـ 3 أيام بمشيئة "إسرائيل" كم هي قاسية، بلا أم ولا أب تحت حجج ومزاعم من قبلها، لكن الهم الأكبر معرفة ما أصاب الطفل، فأجريت له فحصوات روتينية، هاتف دكتور والده محمد، ليطلب منه أخذ خزعة -أحد أنواع الفحوص الباضعة- من الكبد ليتسنى تحديد وتشخص المرض، قوبل بالموافقة، ثم عاد إلى غزة قبل صدور النتائج.
تخبر مستشفى المطلع بالقدس العائلة بعد اسبوع، أن طفلها عبد الكريم مُصاب بمرض ليس له علاج (وهو تليف وتشمع الكبد)، ويمكن أن يكون مرضًا وراثيًا ناتجًا عن صلة قرابة.
وفي مستشفى الرنتيسي للأطفال بغزة: "قيل لي وعبد الكريم في سن ثمانية أشهر ووكل أمرك لربنا في ابنك، وضعه حرج وكبده تهتك وانتهى.. بقينا حتى بلغ من عمره 3 أعوام مقيمون به في المستشفى.. أضحى بيته الأساسي لا الثانوي"، تلك الكلمات لا زالت عالقة في ذهن أبيه محمد.
ارتباط روحي
روحُ عبد الكريم المرحة رغم تعبه والابتسامة التي ارتسمت على وجهه، سهلت دخوله لقلوب إخوته والجيران، ويتهافتون على من سيحمله أولاً؛ كونه لا يستطيع المشي، أما بالنسبة للعائلة كان منبع الحنان.
هكذا هي المفارقات.. الحب لمن فتح قلبه ووسعه رغم ما فيه، والمفارقة الأكبر حين طلب عبد الكريم، طيرًا واشترى والده زوجًا من الببغاء، أضحى بينهم تآلفًا، رغم أن الطير من الفصيلة الجارحة، وبات من أجلهم يستيقظ كل صباح ليشتري الكعك ليطعمهم، فيمد يده بالبزر وبالكعك تارة وبـ"الشيبس" والخبز تارة، كأنه والدهم يخرجهم من القفص ويلاعبهم بلطف.
جذبتني علاقته بالطيور إلى حد الارتباط الروحي -حسب والده- لمعرفة تفاصيل أكثرفذات مساء قبيل اتصال من المستشفى أخبرهم بوفاة طفلهم عبد الكريم، بعد سوء حالته فجأة، صرخت الطيور بصوت مرتفع، فنظر هو وزوجته إلى بعضهما باستغراب.
انتكس زوج طير الببغاء وجلسا في زاوية القفص، بعد أن عاشا سنة سعيدة بجوار أبيهم الروحي.. أما الأب محمد فانطلق مسرعًا نحو المستشفى من هول الخبر المفاجئ وهم الذين ينتظروا بفارغ الصبر سفره قريبًا للعلاج بالخارج، قبل عشرة أيام من تاريخ وفاته في 10/4/ 2019.
وبينما وصل جثمان الطفل عبد الكريم ظهر اليوم التالي إلى منزله في حي الشجاعية، يستعيد الأب أكثر لحظة قاسية، حينما اقتربت والدته من خده لتقبله، حينها اهتز هاتفها، فردت، وإذ باتصال يبلغها بحصولها على موافقة إسرائيل على خروجها مع طفلها، وأجابت المتصل ودموعها تنهمر: "أعطتنوني موافقة وأنا بودع فيه".
ومحمد الذي يعاني من نفس مرض أخيه، وحالته مستقرة، لا يتمنى والده فقدانه وينوي التبرع له بجزء من كبده، ليتركه يلاعب ويعوض على طير الببغاء رحيل عبد الكريم، الذي رغم محاولاته منذ رحيل أخيه لم يقبلانه.. فماذا ذنب الطفل وزوج الببغاء بأي قرارات سياسية؟.
*مخرج دورة تدريبية بعنوان (فن كتابة القصة الصحفية).