لا يكاد يمر أسبوع دون أن يكشف الرئيس الأميركي الأكثر إثارة للجدل عن صورة أخرى من السطحية المعهودة عنه في التعامل مع القضايا الدولية. ترامب الذي عزز الصورة النمطية عن واشنطن غير العابئة بالقانون الدولي ولا بحقوق الشعوب والباحثة النهمة عن مصالحها الخاصة على حساب الحقوق الأساسية للدول، في كل مرة يقدم برهاناً جديداً على التعاطي الأميركي مع العالم. وهو يفعل هذا ربما دون قصد، لكن من قال إن كل أفعال السياسية وحتى تصرفاتنا اليومية، التي تكشف عن حقيقة نوايانا، تتم بقصد، بل ربما على العكس من ذلك فإن العفوية وغير القصدية التي تصدر وتعبر عنها هذه المواقف هي البرهان الأمثل عن تلك النوايا.


لا يقتصر هذا على السياسة الأميركية الخارجية، وإن كانت ما يهم في هذا النقاش، بل إن الكثير من وجوه ترامب المتعددة تتكشف حين يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية، وربما أن عدم متابعتنا لتلك القضايا يجعلها بعيدة عن فهمنا، لكن وعند الاقتراب منها ندرك أن رجل الأعمال المثار حوله الكثير من النقاش والذي دخل البيت الأبيض وسط ضجيج كبير يواجه الكثير من الأزمات التي تعكس فقراً، أو عدم وجود رؤية في إدارة الحياة السياسية بمستوييها الداخلي والخارجي. والتداخل بين مركبات السياسة يعطي هذا الانطباع، فيما يتعلق بترامب، ليس بتوجهات قدرية، كما كان يحلو لجورج بوش الابن أن يحاول تقديم حماقاته بوصفها رؤية ربانية ينفذها، بل بكوميديا سوداء يصعب معها إعمال أي منطق إلا منطق من يصر على التغابي. وربما أن الكثير من القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط من صفقة القرن إلى الموقف الأخير من الهجمة التركية على شمال سورية تعزز هذا الإحساس. وأيضاً بعض تصريحات ترامب التي تمس سياسيين أميركيين أو أوروبيين او عالميين يجب أن يتم تحليلها لفهم العقل غير المستقر لسياسي في موقع متقدم للتأثير على حياة الكوكب. ومن المؤكد أن هذه التصرفات لا تمس الأميركيين بالكثير لكنها تصيب الاستقرار على وجه البسيطة وتعمل في مناطق مختلفة إلى إشعال الفتن والأزمات. بعبارة أخرى فإن ترامب الذي يسعي خصومه لعزله لم يكن ذا فائدة يوماً في السياسة الدولية.


وبالإشارة إلى محاولات خصومه لعزله بسبب المحادثات التلفونية مع قادة اجانب ليست مجرد محادثة عابرة بل إن ثمة شبهة استغلال منصب وموقع. والمضحك في الأمر كأن مثل هذا اكتشاف جديد في شخصية رجل تنقل في الحياة من الإفلاس إلى الثراء الفاحش ومن عالم تلفزيون الواقع إلى صناعة السياسة. إن مجرد حياة المرء وحدها يمكن أن تدلل على الكثير من طباعه لأننا نتاج ما عشناه من خبرات وما مررنا به من تجارب. وحياة ترامب التي أثارت الكثير من الأسئلة يجب أن تظل دائماً دليلاً للبحث في أخطاء الرجل.


يصعب التوقع بنتيجة محاولات خصومه لكن يمكن التنبؤ بأن المهمة لن تكون سهلة. فترامب منذ البداية نجح في شخصنة الصراع مع خصومه، خاصة في المعسكر الديمقراطي وكال الاتهامات والعبارات الجارحة لهم لأن أفضل وسيلة لنزع الدسم الوطني عن الأزمة هو بجعلها ضمن إطار المنافسة السياسية، وعليه فهي ليست بأكثر من معركة سياسية أخرى يجب خوضها بنهم البحث عن الانتصار. ومع هذا فإن الحبل الذي بدا حول رقبة ترامب منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض بات يضيق أكثر فأكثر، إذ انتقل الأمر من نقد إلى وجود قرائن ودعاوى يمكن أن تنجح في عزل الرجل.


شكلت مواقف ترامب من المسألة الفلسطينية انتكاسات أخلاقية كبرى خاصة موقفه تجاه نقل مكتب تمثيل واشنطن من سفارة إلى مستوطنة في القدس الشرقية، ومع التركيبة المتطرفة لطاقمه المختص بالعلاقة في المنطقة خاصة المستوطن فريدمان الذي يقال إنه سفير واشنطن لدى إسرائيل إلى صهره إلى بقية الفريق الذي بدا كاثوليكيا أكثر من البابا فيما يتعلق بالموقف الداعم لإسرائيل وعدوانها على الشعب الفلسطيني. لم يعد من صفقة القرن إلا أماني ترامب ورغبات أصدقائه في تل أبيب، إذ إن الموقف الفلسطيني الرافض لمجرد التفكير في الأمر والتحصينات التي نجحت الدبلوماسية الفلسطينية في إحاطة الموقف الرافض للصفقة بها جعلت كل محاولات ترامب ومبعوثيه غرينبلات وكوشنير مجرد محاولات هواة في عالم السياسة. لكن يمكن إعادة التفكير في تطور مواقف ترامب، فالرجل في بعض الأشهر الأولى لولايته عبر عن بعض المواقف التي لم تفترق كثيراً عن مواقف أسلافه، خاصة فيما يتعلق بتبني "برادايم" الدولتين بل بدا في بعض الأحيان جاداً في الدفع باتجاه تبني هذا الخيار. بل بدا عاقلاً في بعض أطروحاته التي ارتكزت على وعيه كرجل صفقات ومال من خلال الحديث عن المقابل المطلوب لكل شيء. لكن شخصية ترامب التي لا تستقر على حال سرعان ما دفعت لتحولات مهولة في مواقفه. صحيح أنه تبنى مهمة نقل السفارة في برنامجه الانتخابي لكن بدا بعد فوزه مقتنعاً بالتأجيل، لكنه سرعان ما أدار دفة القيادة مائة وثمانين درجة وتبنى خطاباً متطرفاً ضد الحقوق الوطنية الفلسطينية، بل اختار أن يكون عدواً للشعب الفلسطيني.


أمر شبيه من ذلك الأزمة الأخيرة حول التدخل التركي في سورية. أنقرة كانت تستعد لحزمة العقوبات الأميركية وهي تدفع بطائراتها فوق الأجواء السورية، وبدا ترامب غاضباً وهي يرى أنقرة تكسر الموقف الذي يريد، ثم انتهى كل شيء وتغير الموقف وتم التوصل لتفاهم لوقف العملية التركية في سورية. يصعب التنبؤ بمواقف ترامب كما يصعب التنبؤ بمستقبل بقائه في البيت الأبيض، لكن المؤكد أن هذا النهج المتقلب بات طريقة للتعاطي في السياسة ستجد من يواصلها ويطور عليها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد