عودة الروح، رواية للأديب والمفكر المصري توفيق الحكيم، نُشرت عام 1933، محور أحداثها أسرة مصرية كان لكل فرد منها عالمه الخاص وهمومه الخاصة، وعندما اندلعت ثورة 1919 شاركت في أحداثها، فأُصيبت في المظاهرات وجمعتهم زنزانة واحدة، وصهرتهم المحنة، وتغلغلت فيهم روح الجماعة، فأصبحوا كالجسد الواحد الذي عادت إليه الروح، الرواية مهدّت لثورة 23 يوليو 1952 وظهور الزعيم (المُخلص) جمال عبدالناصر، لذلك اعتبر الضباط الأحرار توفيق الحكيم الأب الروحي للثورة، وهو بادلهم نفس الشعور بتأييده للثورة وحبه لزعيمها.
بعد وفاة جمال عبد الناصر بعامين نشر توفيق الحكيم كتاب ( عودة الوعي) عام 1972، ومضمونه مراجعة نقدية قاسية للثورة والناصرية بسبب الاستبداد والفساد والتسبب بهزيمة الجيش في حزيران 1967، وغياب وعي الشعب المصري، ومما كتبه في هذا المعنى "كانت الثقة فيما يبدو قد شلّت التفكير، سحرونا ببريق أماني كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، واسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غياب الوعي... إن سنوات الثورة كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقداً الوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأي في العلن مخالف لرأي الزعيم المعبود.".
الروح والوعي ضروريان لنجاح أي ثورة، فالروح هي التي تُعطي جماهير الثورة القوة والشجاعة على تفجير صاعق الثورة، وتمدهم بالطاقة والغضب على إشعال نار التمرد، وتزودهم بالإيمان واليقين الذي يمنحهم الاستعداد للتضحية والفداء. والوعي هو الذي يُحدد للثوار بوصلتهم واتجاههم ليسيروا نحو هدفهم المرسوم ويمدهم بالفهم والإدراك لتشخيص حاضرهم وواقعهم وتحديد أعدائهم وأصدقائهم، ويزودهم بالحكمة والحنكة لاستبصار معالم طريقهم وملامح مستقبلهم. وإذا كانت الثورة التونسية- درة تاج الثورات العربية- فقد فقدت الروح أحياناً والوعي حيناً آخر، أو على الأقل تراجعا، فقد استعادتهما بانتخاب قيس سعيد رئيساً لتونس، وكان بمثابة عودة الروح والوعي للثورة التونسية، فجمعت بين مضمون رواية (عودة الروح)، ومحتوى كتاب (عودة الوعي) لتوفيق الحكيم.
قيس سعيد أعاد روح ووعي الثورة التونسية إلى الشعب التونسي، بدون غوغائية في خطابه السياسي للجماهير؛ بل بطريقة عقلانية وواقعية وعلمية، وبحس وطني وقومي وإنساني، فهو لم يعدْ التونسيين بأن تصبح بلادهم سنغافورة جديدة، ولم يغرِ الشباب بتحقيق أحلامهم وإنجاز طموحاتهم بضربة حظ، ولم يبعْ شعبه الأوهام وغيهّم بالآمال، ولم يخدعْ التونسيين بسرعة حل مشكلاتهم والخروج من أزماتهم. وما فعله فقط أنه أيقظ إرادة الحياة فيهم، فأعاد الأمل بمستقبل أفضل من صنع أيديهم، وأعطاهم الثقة بقدرتهم على تغيير واقعهم نحو الأحسن" مستلهماً قصيدة (إرادة الحياة) لشاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي مطلعها "إذا الشعب يوماً أراد الحياة.... فلا بد أن يستجيب القدر" ولذلك جعل شعار حملته الانتخابية (الشعب يُريد)، إدراكاً منه أن إرادة الحياة للشعوب تصنع المعجزات، وأثبت قيس سعيد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لذلك فقد أعطى الناس شيئاً آخر غير الخبز هو الكرامة والأمل وإرادة الحياة.
قيس سعيد رئيس من خارج منظومة الرؤساء العرب، فقد اثبت أنه ينتمي للشعب ولعقيدة الشعب التونسي، ففي نهجه السياسي يرى أن السلطة مصدرها الشعب وستكون بيد الشعب الذي يقرر مصيره ويسطر خياراته وعارض مشروع المساواة في الارث بين الذكر والأنثى قائلاً "إن المسألة محسومة بالنص القرآني، وهو واضح صريح لا يحتاج للتأويل معلناً انتمائه لعقيدة الشعب (الإسلام)، واثبت أنه ينتمي لأمته العربية بإعلانه المطلق الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وتأييد حقوقه، واعتبر التطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة عُظمى تستوجب التجريم والمحاكمة معتبراً بلاده في حالة حرب مع الكيان الصهيوني، وحدد طبيعة العلاقة مع محيط تونس المغاربي والعربي كامتداد طبيعي لتونس، والعلاقة مع الدول الاوروبية على أساس المصالح المتبادلة والتعايش بين الشعوب، ورفض الاستعمار الذي لا يتسلل إلى الدول العربية عبر الحدود ولكن عبر عملائه بالداخل، واعتبر أن قضايا الدين والهوية التي زرعت داخل الدولة الواحدة هي لتشتيت أبناء الشعب الواحد.
ربما لم يُقدم الرئيس التونسي المُنتخب برنامجاً إصلاحياً تفصيلياً يوجد فرص عمل سريعة للشباب، وحل مشكلة الفقر والبطالة، والقضاء على الفساد... ولكنه تعهد بتطبيق القانون، وتحقيق المساواة، وإطلاق الحريات، وإصلاح منظومتي الصحة والتعليم، وضبط المال العام، وتفعيل المحاسبة الحكومية، و فتح المجال للشباب لأخذ دورهم في السلطة والانتاج والابداع وهذا من شأنه عودة الروح والوعي للثورة التونسية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية