رصاصةٌ بترَت قدم "محمد" ولم تُعِقْه عن لعب الكُرة

رصاصةٌ بترَت قدم "محمد" ولم تُعِقْه عن لعب الكُرة

يتلاشى مفعول المخدر الطبي،لتبصر عينا محمد،النور بشيء من الغبش، بعد غفوة قاربت الساعة، قضاها في غرفة عمليات مشفى الشفاء، بعد قدومه مصابا في كلتا قدميه ، يستعيد وعيه شيئا فشيئا ليعلو صوت أحدهم "محمد صحي .. الحقو غطو رجلو بسرعة بلاش يشوف".

كانوا خائفين من إعلامه بأن قدمه اليمنى بترت، تتنقل عيناهُبصعوبةٍ في أرجاء الغرفة، لتستقرا ناحية وجهِ أمه.. كانت عيونها تنزف دمعاً ووجهها شاحبٌ قلِق، أدارته ناحية الجدار وبصوت يخنقه البكاء رددت "يا حسرتي على شبابك ياما".

رجعت بذاكرتها إلى حيث تلك الأحلام التي لطالما حدثها عنها "محمد" في أن يصبح رياضياً ناجحاً يمثل فلسطين –كقلبٍ للهجوم- في البطولات الرياضية.. كرة القدم التي تفوق فيها على أقرانه، والجري لمسافات طويلة، وكرة السلة.. في كل الألعاب كان الفوزُ غالباً من نصيبه..

لم يكن محمد عليوة الذي أصيب في الاعتصامات الحدودية المطالِبة بحق العودة شرقي قطاع غزة "مسيرات العودة"، قد استعاد وعيه بالكامل آنذاك، ولكن تسمر عيون الجميع نحو قدمه دفعه لتحريك بصره نحو نهاية السرير الطبي،فلم يدرك سوى قدم واحدة، ليحل مكان الأخرى رباط أبيض رآه ابن الـ (17) عاما كالكفن.

"انتفضت أمي حينها واحتضنتني بقوة،ووقف والدي خلفها لأراه لأول مرة في حياتي عاجزا مستسلما "هكذا وصف محمد بصوته المرتجف لحظات اداركه لما فقده في ذاك المساء"..

ودع محمد جزء من جسده، حاله كحال 153 مصاب بالبتر جراء قمع الاحتلال الاسرائيلي لمسيرات العودة الذي خلف 19 ألف اصابة وأسدل الستار على حياة 313 شهيد ارتقوا منذ انطلاق المسيرات بتاريخ الثلاثين من آذار العام الماضي.

رصاصتان

"محمد يلا انزل بدناش نتأخر ويروح باص ملكة علينا".. كانت المرة الأخيرة التي سمع بها محمد هذه العبارة بتاريخ التاسع من نوفمبر من العام الماضي،"انطلق الشابان الصغيران نحو مخيم ملكة على الحدود الشرقية لمدينة غزة دون ان يعلم أن طريق العودة ستكون مختلفةً تماما، "وصلت المخيم وكالعادة وقفت بين جموع المتظاهرين بشكل سلمي ضمن المنطقة الآمنة وبجواري صديقي".

على وقع أصوات الرصاص وبجو معبئ برائحة الغاز المسيل للدموع والغبار، تجاذب محمد وصديقه أطراف الحديث حول اللاعبين الأفضل في منطقة سكنهم، ومن يجب ضمهم لفريق الحي في مواجهة الأحياء الأخرى،خلال البطولة المقبلة لكرة القدم بين أحياء شرق غزة "جمال بينفع هجوم على اليمين.. رجله الشمال قوية كتير وبتصيب" ،كان هذا آخر ما قاله لصديقه دون أن يعلم أنه سيغيب قسرا عن هذه البطولة؛والسبب أنه على بعد بضع مئات من الأمتار كان يرقد قناصة الاحتلال خلف التلال الرملية،وهدفهم قتل الأحلام والأجساد.

لم يكن يعلم أنه تم تحديده كهدفٍ خطِر على الأمن القومي لدولة الاحتلال،في تلك اللحظة تسابقت رصاصتان ناحية قدمه، يسقط محمد أرضًا وقد فجرت إحداهما عظام قدمه اليمنى وأصابت الأخرى اليسرى بجرح بليغ.

هنا، توقف محمد عن الحديث لبرهة محاولا اخفاء دمعة احتلت عيونه عنوة - فالرجال لا يبكون كما يقال في مجتمعنا- يشير لقدمه المبتورة ويكمل :"رأيتُ ما حدث لقدمي اليمنى وكيف مزقتها الرصاصة فلم تترك سوى قليل من الجلد واللحم يوصلها بجسدي، في تلك اللحظة رأيت مستقبلي وحلمي كبطل رياضي يمثل فلسطين يتمزق أمامي".

يصرخ أحمد باسم رفيقه بأعلى صوته، بعد أن رآه يتهاوى بجواره،ليهرع الشبان لنقلهللنقطة الطبية ومن ثم لسيارة اللإسعاف.. انتشر الغبار في تلك البقعة من ميدان العودة، ليختم بهذا المشهد مشاركات محمد في فعالية "كان يرى فيها واجبًا وطنيًا كل جمعة".

حلم الطفولة

" لم أحزن على فقدان قدمي بقدر ما أحزنتني وأرعبننيفكرة فقدان أحلامي في أن أصبح رياضيا ناجحا ومشهورا، أمثل بلادي في البطولات الرياضية" رددها الشاب وعينه تحدق بصورة علقها لمنتخب فلسطين في غرفته، إذ كان منذصغره يحلم بأن يحصل على مكان في المنتخب الوطني لكرة القدم في مركز قلب الهجوم.

يستعرض لنا محمد صوره في بطولة "الكلّية الصناعية" لكرة القدم ويروي بشيء من الفخر كيف كان أداءه متميز في مركز الهجوم، "كنت صانع الألعاب الأول بالفريق" ليكمل ضاحكا " ولا تقول انيستا" هو أحد أبرز صانعي الألعاب في كرة القدم.

محمد لم يكتفي برياضة كرة القدم فمارس رياضة الجري لمسافات طويلة وحقق فيها نجاحا كبيرا بين اقرانه، حيث كان من المعتاد أن ينظم سباق اسبوعي صباح كل جمعة، وكان الفوز في أكثر المناسبات من نصيبه.

الامر لم يتوقف عند هذا الطموح "كنت كتير بحب كرة السلة وبلعبها وكمان كنت بروح على الجيم لرياضة كمال الاجسام وأزيد اللياقة البدنية عندي" والحديث للبطل الصغير، بجانب مهارته في السباحة.

حلم محمد كذلك يكمن بتمثيل فلسطين في دورة الالعاب الاولمبية في السباحة و الماراثونات، ليخرج عن سياق الموضوع " شفت اللاعب اللبناني إلي انسحب من قدام الاسرائيلي في الملاكمة؟ "قالها بنبرة من الفخر ليعبر عن عشم الشعب الفلسطيني في أشقائه العرب.

على أية حال، ظن محمد – مخطئاً - أن كل هذه الطموحات تلاشت مع بتر قدمه،ولم يعلم حينها أنه يملك من العزيمة ما سيحيل به المستحيل إلى واقع.

لحظات العجز

"عدت إلى المنزل على كرسي متحرك، وتعاون اشقائي لحملي على الدرج" قالها بنبرةتقطر قهراً ، يروي محمد تبدلات حاله داخل المنزل، بعد أن كان سندا في خدمة أسرته ليصبح بين ليلة وضحاها عبئاً ثقيلا، أو على الأقل هكذا رأى نفسه .

صباح اليوم التالي للإصابة، كل شيء بدى طبيعيًا، الشمس تشرق من الشرق والعصافير أعلنت بداية الصباح وخرقت هدوء المنزل الذي عاش ليلة صاخبة جدًا، الأمر استمر كذلك حتى استيقظ محمد وحاول النزول عن سريره "كما المعتاد بدأت أنزل عن سريري دون أن أتذكر أن قدمي بترت، فسقطت على الأرض" الجلبة التي أحدثها سقوط محمد أتت بشقيقه الاكبر الذي ساعده، ليحبس صاحبنا دمعته، مدركا أن ما حدث لم يكن كابوسا بل واقعا سيعتاد عليه طيلة حياته.

أكثر ما احزن محمد ظنه أن احلامه بأن يصبح بطلاً رياضيا مشهورا قد انقضت الى غير رجعة، وأن عليه أن يتعود على أداء حرفته كنجار على كرسي متحرك. وهو ما سبب له حالة من الانطواء لفترة ليست بالقصيرة.

على الجانب الأيسر لسريره، كانت تنتصب صورة لتكريم محمد بميدالية لفوزه في أحد الماراثونات الرياضية،حدق بها طويلا ولسان حاله يقول" هل رحلت تلك الأيام بلا رجعة ؟ حل انتهى كل شيء كل شيء ".

"الكوتش" يعود للملاعب

"وينك يا كوتش" كان هذا صوت صديق محمد وزميله بالفريق زياد، بعد أكثر من شهر بعد الاصابة؛ لإخباره حول تجمع رياضي لتكوين فريق كره قدم من مبتوري الاقدام .. كان هذا الخبر بمثابة المعجزة التي تحققت لمحمد الذي بعث له الامل من جديد ولربما كانت استجابة لدعوات أمه التي لم تنقطع منذ حينها "الله يفرجها عليك يا ولدي".

قام محمد بالتسجيل وحضور التدريبات وإجراء الفحوصات، لتتغير حياته رأسا على عقب منذ ذلك اليوم " كنت قد غبت عن الملعب المعشب عدة أشهر وفجأة أعود اليه بعد أن قطعت الامل من ممارسة كرة القدم مجددا، كان هذا حلم لم أجرؤ أن احلم به حتى" يقول محمد.

شباب مبتوري الأقدام جراء الحروب وقمع المسيرات، شكلوا نواة فريق يمثل مدينة غزة، " بدأنا بالتدريب لفترة على استعادة لياقتنا ومن ثم تدربنا لنتعود على اللعب بقدم واحدة وعكازين،لبدأ بعدها سلسة من المباريات التدريبية" قالها محمد وهو يسرد العديد من تفاصيل وقواعد كرة القدم الخاصة بمبتوري القدم.

يخوض محمد وفريقه هذه الأيام دوري كرة قدم مخصص لمبتوري الأقدام على مستوى قطاع غزة، وفريقه يحتل الصدارة بواقع 15 نقطة، سجل خلاله لاعبنا هدفين وصنع أكثر من عشر فرص، ليكون أفضل صانعي الألعاب ضمن فريقه ويحقق شيئا حلم الطفولة.

محنة ثم منحة

"يبقى المستحيل مستحيلا حتى يأتي أحدهم ويفعله" عبارة قالها غاندي وطبقها بطل قصتنا ليعلق على جدران المستحيل صور انجازاته بقدم واحد وعكازين.

لاعب كرة سلة وعضو في منتخب فلسطين للبتر وسباح ماهر و عضو في فريق الدبكة لذوي الاعاقة، هذا هو محمد بعد أقل من عام على اصابته، " بلغت ذروة حزني ويأسي،ثم قررت ألا أكون حبيس المنزل وأقضى ما تبقى لدي من حياة بين هذه الجدران، انطلقت للحياة من جديد وحاولت أن أعود للرياضة والتي كانت مع قدم مبتورة أشبه بالمستحيل".

"الحياة معركة وانت لن تهزم لطالما لم ترفع الراية البيضاء" كان هذا توصيف محمد لتجربته بعد ما حققه من انجاز بعد الاصابة وتغلبه على أسوء ما قابله.

في نهاية حواره معنا قال "لقد قابلت العديد من المصابين مبتوري الاطراف يائسين ومنعزلين وصدقا أعذرهم فكنت يوما في مثل حالهم، ولكن لو علموا ما يستطيعون فعله لما رفعوا هذه الخرقة البيضاء".

اليوم لا يشبه الأمس، فمحمد أخذ على عاتقه أن يقوم بتوعية مصابي غزة بحالة البتر ليزورهم في منازلهم ويدعوهم إلى التمرينات، ويقوم بحملات جمع للتبرعات لتوفير الزي الرياضي والمواصلات للفقراء منهم.

توقع محمد أن شمسه غابتوأن ألبوم صور انجازاته الرياضية توقف بتاريخ التاسع من شهر نوفمبر من عام 2018 ولكنه اليوم بات شمسا وعلما في الساحة الرياضيةولم يعد يكفي الألبوم لما خطه صديقنا من ابداعات كان يرى أنها باتت في عداد المستحيلات، وهكذا بات محمد عليوة أيقونة يقتدي بها الصحيح قبل العليل.

*مخرج دورة تدريبية بعنوان (فن كتابة القصة الصحفية)

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد