عند احداث مقارنة بين طبيعة عمل المنظمات الأهلية والتي نشأت من رحم العمل الطوعي ثم تأسست إبان الانتفاضة الشعبية الكبرى وبعد تأسيس السلطة على اسس مهنية متخصصة وبين طبيعتها وأوضاعها الراهنة نجد ان هناك فروق نوعية تراجعية وسلبية بما يتعلق بأسس العلاقات الداخلية والتضامنية بين هذه المنظمات.
كانت العلاقات تستند لآليات من التعاون والتنسيق والتشبيك والشراكة والطوعية والحافزية سواءً بما يتعلق بالأبعاد الوطنية أو الحقوقية أو التنموية.
الحرص على المصلحة العامة والتكامل بالعمل وتحييد المنافسة وتعزيز التعاون ودعم المبادرات الناشئة كانت هي أبرز السمات التي ميزت فترة الثمانينات والتسعينات بخصوص منظمات العمل الأهلي.
لعبت كل من سياسية الممول وضعف آليات الرقابة الداخلية وكذلك المجتمعية دوراً كبيراً في إزاحة هذه القيم جانباً واستبدالها بآليات التنافس بدلاً من التكامل وذلك من خلال خلق نخب اجتماعية من داخل هذه المنظمات تتمتع بالامتيازات والتسهيلات الأمر الذي حصرها بالطابع المهني المختص واضعف ترابطها مع فئاتها الاجتماعية التي من المفترض ان تمثلها وتدافع عنها إلى جانب اضعاف رسالتها الوطنية والسياسية من خلال التركيز على المهنية بدلاً من الترابط العضوي بينها وبين الأبعاد التحررية والديمقراطية ، وذلك ضمن مبرر اننا لسنا أحزاب سياسية.
ساهم ضعف التشبيك والشراكة والتعاون بين المنظمات الأهلية وخاصة التي تعمل بذات القطاع المحدد في نفاذ المنظمات الدولية وفرض اجندتها بما لا يعكس بالضرورة أولويات واحتياجات الفئة الاجتماعية أو القطاع التنموي أو الحقوقي المعين.
وبالوقت الذي تراجعت بها عمليات التآزر والتضامن بالعلاقات الداخلية زادت درجة وفاعلية المنظمات الدولية غير الحكومية والتابعة للأمم المتحدة التي انتشرت بصورة كثيفة بالآونة الأخيرة في كل من الضفة والقطاع ، بل أكثر من ذلك حيث اصبحت تتحكم بآليات التنسيق القطاعية التي تسمى " Clusters " ضمن شراكة غير مؤثرة من المنظمات الأهلية.
لقد تعززت مكانة ونفوذ المنظمات الدولية بما أنها الأقدر للوصول إلى الموارد المالية من المنظمات الأهلية المحلية التي اصبحت تعاني من الضعف والتراجع وصولاً إلى إغلاق ابواب البعض منها وتسريح الموظفين والعامين لديها ليضافوا إلى جيش العاطلين عن العمل وذلك بسبب الأزمة المالية التي تمر بها وعدم تمكنها من تغطية نفقاتها الجارية.
لا تكمن المشكلة في مخاطر اغلاق ابواب بعض المنظمات الأهلية وضعف وتراجع البعض الآخر وتأثير ذلك على العاملين بها فقط بل تكمن كذلك بانعكاسات هذا الوضع على الفئات الاجتماعية التي تمثلها وعلى رسالة المنظمات الأهلية ذات الأبعاد الوطنية والديمقراطية والتنموية ، وعلى القدرات الرامية لتعزيز صمود شعبنا.
بدلاً من قيام المنظمات الأهلية بالتشبيك والتآزر الداخلي فقد اختار معظمها الخيار الذاتي والفردي بترتيب علاقاته مع بعض الشركاء من المنظمات الدولية دون الالتفات إلى أهمية تحقيق حالة من التلاحم الداخلي لتستطيع التأثير بسياسية الممول على قاعدة الشراكة وليس الوصاية والهيمنة ، بل أكثر من ذلك حيث لجأت بعض المنظمات وهي ذات النفوذ والقدرات الكبيرة إلى التعاقد مع بعض الشركات الاستشارية " الخاصة " لتجنيد الأموال في ظاهرة تشير إلى " خصخصة " العمل الأهلي ، علماً بأن المنظمات الأهلية التي تعتمد على روح المبادرة والتطوع لا تملك القدرات المالية للتعاقد مع هذه الشركات الأمر الذي سيدفع باتجاه قذفها خارج اطار " السوق " وفق لغة الليبرالية الجديدة.
لم تقم المنظمات الاهلية وخاصة الكبيرة وذات النفوذ بتعزيز العلاقة مع المنظمات الأهلية الأخرى العاملة بذات القطاع وذلك باتجاه اسنادها وتقويتها وادماجها بالمشاريع المقدمة على قاعدة التضامن الداخلي واستسهلت بدلاً من ذلك عملية الشراكة مع المنظمات الدولية بما عمل على ترك المنظمات الصغيرة والمتوسطة عرضة للإقصاء والتهميش أو الاستخدام غير الرشيد من قبل المنظمات الدولية تحت عنوان الشراكة وهي بالضرورة غير متكافئة.
لا يمكن وضع جميع المنظمات الأهلية والدولية في سلة واحدة ، فهناك بعض المنظمات الأهلية التي تؤمن بالشراكة ودعم المبادرات الناشئة وتدفع باتجاه تقويتها وتمكينها وتطويرها ، كما أن هناك بعض المنظمات الدولية التي تمارس الشراكة الحقيقية المبنية على قيم التضامن مع الشعب الفلسطيني وذلك عبر دعم وتقوية منظمات العمل الأهلي.
وإذا كان تراجع قيم التضامن الداخلي والتمسك بالخيار الفردي ساهم بوصول العمل الأهلي لهذه المرحلة من التراجع ومخاطر التلاشي للبعض منها ، فهل ستقوم المنظمات الأهلية وخاصة في اطار الهيئات والتشكيلات والشبكات الجمعية بادراك أهمية العمل على وقف التدهور والشروع باستعادة المبادة من جديد بما يضمن تعزيز قيم ومبادئ وآليات التضامن والتماسك الداخلي أم انها ستستمر في غض النظر عما يحدث الأمر الذي سيطولها في لحظة من اللحظات عبر استمرار المنهجية الليبرالية الجديدة الرامية إلى تجفيف منابع معظم هذه المنظمات واستبدالها بالمنظمات الدولية وتحويل المنظمات الأهلية إلى وسيط لتنفيذ البرامج وتقديم الخدمات وليس شريك متكافئ.
ويشار هنا بأن مغادرة المنظمات الدولية الاراضي الفلسطينية بأية لحظة لأنها تتحرك حسب الأزمات بالعالم سيساهم في تقويض شبكة الحماية الاجتماعية التي توفرها فقط المنظمات الأهلية المحلية الباقية بالوطن.
لقد بات مطلوباً العمل على استنهاض مؤسسات العمل الأهلي وتعزيز دورها بالضغط والمناصرة بما يساهم في فتح حوار جاد مع المنظمات الدولية من أجل الوصول إلى اسس من الشراكة والتي تعمل على تمكين المنظمات الأهلية وتعزيز رسالتها بالمجتمع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية