مُنيَ الأكراد بعدة هزائم سياسية كبيرة في السنوات الأخيرة ومنذ «الاستفتاء» على الانفصال، تبيّن أن «الوعود» الغربية للأكراد في العراق كانت أوهاماً في أوهام.
حاول أكراد سورية أن يعوّضوا بعد استفحال الأزمة السورية عن تشتت قوات حزب العمال الكردستاني، وأن يعيدوا قضية الأكراد إلى الواجهة عبر البوابة الأميركية، وانخرطوا في معركة مصيرية ضد «داعش» الا انهم لم يتمكنوا من كبح جماح تركيا، ولم يسعفهم الأميركيون في المعركة الفاصلة التي كان يعد لها اردوغان، ويؤكد انها قادمة لا محالة.
لم يعد امام أكراد سورية إلا ان ينزلوا كثيرا من سقف توقعاتهم وطموحاتهم والقبول بأن يكونوا أكراداً سوريين فقط، وأن لا يكونوا أكراداً في القضية الكردية العادلة، وأن ينكمشوا إلى أقلية كباقي الاقليات السورية في اطار الوطن الواحد.
المنطقة العازلة هي نهاية أحلام الأكراد في المدى المنظور، والخديعة الأميركية والغربية هي خديعة أخرى كبيرة للأكراد.
نهاية التواصل بين أكراد تركيا وأكراد العراق وأكراد سورية وحتى أكراد إيران تعني أن الحرب على سورية وفيها قد «استقرت»، أو هي في طريقها إلى الاستقرار على اساس جديد جوهره الرئيس وحدة الطوائف والمذاهب والأديان والأقليات «دستورياً»، ونفي أو محاولة نسف المكوّن الواحد القائم على الانتماء الوطني.
وهذا ـ كما أرى ـ هو المستجد الأكبر في الأزمة السورية بعد الاجتياح التركي.
تركيا كانت على وشك ان تخرج من «اللعبة السورية» دون «حمص»، وأدركت ان اللاعب الروسي يستعين بالعاملين التركي والإيراني لإعادة توحيد البلاد على أسس وطنية وليس مذهبية أو طائفية، لكن تركيا لديها ملايين من العلويين، والأكراد يمكن أن يهددوا وحدتها القومية إن هي أصرت على تجاهل حقوقهم في تركيا، وهي لا تريد أن يكون الدستور السوري الجديد دستوراً وطنياً بأي حال لأن الدستور الوطني يدمج كل المكونات الاجتماعية والثقافية السورية في بوتقة واحدة ـ أو هكذا يفترض ـ وهو ما تراه تركيا خطراً على سلطة حزب العدالة والتنمية، بل ربما تراه نذير انهيار سياسي كبير.
العملية التركية نوع من «التحصين» المذهبي لتركيا، وهي نوع من هذا «التحصين» لسورية.
«التحصين» المذهبي في العراق اهتزّ بصورة غير مسبوقة في المظاهرات الأخيرة وهو ما يعني ان الحرب القادمة في العراق وسورية وتركيا وايران يمكن ان تأخذ هذا الطابع إذا لم تتم [إعادة هندسة الديمغرافية في المنطقة]، وكل ما تحاول تركيا اليوم هو المرحلة الأولى من هذا التوجه الخطير والذي هو مخطط يلتقي بالمحصلة مع مخططات تفتيت المجتمعات العربية في بلدان عربية كثيرة بعد أن تم تدمير مؤسسة الدولة فيها، أو بعد أن حولوا مشروع الدولة الوطنية فيها الى مشروع فاشل وعاجز وفاسد وتابع بأسوأ أنواع التبعية والذيلية المهينة.
مقابل محاولة زعامة الشيعة من قبل إيران، ومن أجل منافسة السعودية على زعامة السنّة، انخرط اردوغان في مشروع زعامة «السنّة» بدعم من الإخوان المسلمين، وبدعم «خفيّ» من أميركا والغرب، ومن أجل إنهاء أي مشروع قومي عربي في المستقبل. والمساومة القادمة في سورية على الدستور ستكون:
اما ترتيبات مذهبية لصالح المدّ التركي والسنّي، أو إبقاء منطقة إدلب وكذلك الجزيرة تحت «الرحمة» التركية.
أما إيران فإن تموضعها المكثف في سورية فسيكون إما البقاء تحت الوصاية الإيرانية أو إبقاء سورية رهينة حروب لا تنتهي ولا تنتهي الا لتبدأ حروب جديدة.
فهم الروس، وهم الأكثر حنكةً ودهاءً من كل اطراف الصراع في سورية وعليها ان ثمة «طبخة» قد تم إعدادها بخبث في البيت الأبيض يسمح بموجبها لتركيا أن تقدم على ما أقدمت عليه، مع مراعاة الكثير من المحاذير، ومن التهور، والبقاء في منطقة يتم الولوج من خلالها الى منطقة «الدستور الجديد».
دعونا من هذا الضجيج الإعلامي لأميركا وإسرائيل «ضد» التدخل التركي فهو ساذج ومكشوف.
دعونا أيضاً من الضجيج العربي ضد هذا التدخل التركي فهو متأخر، ولم تعد له أهمية وازنة من أي نوع.
ودعونا من النفاق الأوروبي والفرنسي تحديداً فهو نفاق متواصل في قضايا أخرى أكبر وأهم.
ولهذا كله فإن تركيا تعيد دورها في سورية لتقرر في مصيرها قبل «فوات الأوان».
ليس لإيران أيضاً مصلحة في الوقوف ضد هذا التدخل لأن «تواصل» منطقة الأكراد ليس سوى المرحلة الأولى لبدء تمرد أكراد إيران نفسها.
فقط روسيا هي الخاسر الأكبر من هذا التدخل لأن تركيا فعلياً لن تنسى لأميركا هذا الجميل، وطالما أن ردة الفعل الأميركية لم تخرج عن «الطبخة» وطالما أن الجعجعة الإعلامية هي عنوان الموقف الأميركي من هذا الاجتياح.
ليس أمام روسيا سوى تهشيم الاستهداف التركي مستقبلاً [ المستقبل القريب]، وستمنع بالتحالف مع النظام تحويل المنطقة إلى عازل ديمغرافي جديد، وستبقي كل المسألة في حدود الاعتبارات الأمنية التركية وليس الاعتبارات الاستراتيجية البعيدة التي تخطط لها تركيا.
أميركا مع الخطة الكبرى لتركيا، وهي ليست واثقة من نجاح تركيا في الخطة الصغرى [الموضوع الأمني المباشر]، والغرب كذلك. وحتى ايران لن تكون مع الخطة البعيدة، ولكنها يمكن أن تغض الطرف عن المعركة «الأمنية
، خصوصاً وأن تركيا هي ملاذ رئيس لإيران في مواجهة العقوبات الأميركية عليها.
إذا بقيت العملية التركية عند حدود الاعتبارات الأمنية، فإن دورها سيتقلص وستبدأ مرحلة التراجع الاستراتيجي عن الدور الحاسم في سورية.
أغلب الظن أن تركيا ستفشل وأُفول دورها هو الأرجح على ما يبدو.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية