الحراك الشعبي الصاخب الذي يجري في العراق هذه الأيام يؤكد أن الحراك الداخلي في العالم العربي ما زال جاريا، ويهدف بالأساس إلى إحداث تغيير نوعي على نظام الحكم، كذلك إخراج البلاد العربية من دائرة التجاذبات بين القوى الإقليمية والدولية، التي يسعى كل منها لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الشعوب العربية، مستغلة في ذلك ضعف النظام العربي القائم، لكونه نظام حكم الفرد المستبد، الذي لا يستند إلى قاعدة الديمقراطية التي تطلق طاقة الشعب لحماية الدولة والوطن من السيطرة الخارجية ومن الفساد الداخلي في آن معاً.
في حقيقة الأمر تحول العراق بعد صدام حسين إلى "مستعمرة أميركية" وإلى توغل النفوذ الإيراني من جهة، ومن جهة أخرى إلى ساحة لنهب ثرواته من قبل الحكومات المتتابعة التي وزعت ولاءها بين المنطقة الخضراء والحوزات الدينية، وبين الطوائف، وكل هذا كان على حساب إفقار الشعب العراقي وعلى حساب كرامته الوطنية، ونفس الأمر تقريبا حدث في سورية، مع استبدال الوجود العسكري الأميركي بالروسي فوق الطاولة، متجاوراً مع نفوذ إيراني من تحت الطاولة.
ورغم أن العين المجردة ترى أن ما يحدث في أي بلد عربي، إنما يجري بمعزل عن الدول الأخرى وحتى عن التأثيرات الإقليمية والعالمية، لكن حقيقة الأمر إنما هي غير ذلك، فمنذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، لم تعد الأقاليم منعزلة عن التحولات الكونية، وكما أن حركة التحرر في منتصف القرن الماضي، انطلقت في بلادنا متأثرة بالمقاومة الشعبية للاحتلالات الخارجية، والتي انتهت في بلادنا بأنظمة حكم عسكرية نجمت عن انقلابات عسكرية لضباط أحرار، وطنيين وقوميين، فإن عصر الديمقراطية والعولمة ي فتح على بلادنا آفاق الثورات الشعبية الناعمة، رغم المخاضات القيصرية بحكم التدخلات الخارجية في أكثر من مكان.
المهم أنه لا يمكن القول اليوم وبعد نحو ثماني سنوات إن هذا المسار قد أنكفأ، أو إنه قد وصل إلى نهايته، فما زالت المرحلة الانتقالية ما بين وجود النظام المستبد في معظم الدول العربية، وما بين نظام الحكم الديمقراطي الشعبي، ما زالت قائمة، ولعله من المفيد جداً القول، إن وجود انتكاسات في بعض التجارب لا يخفي أبداً نجاحات تتحقق في تجارب أخرى.
وإذا كان المشهد في ليبيا، اليمن وسورية قاتما، فإن المشهد في تونس، الجزائر والسودان، هو غير ذلك، والثورة الشعبية الحالية، لا تحقق أهدافها بضربة واحدة، أو بضربة قاضية، كما كانت الحال في زمان الانقلابات العسكرية، وحتى تلك أخذت عقودا - نحو عقدين - من ثورة يوليو52 إلى ثورة الفاتح 69، بل تحقق أهدافها بالنقاط، بالتتابع، ببطء، لكن بثقة مؤكدة.
المهم أنه مع ذلك، فإن المراهنة على الشعوب العربية هي المراهنة الرابحة، حيث إن كل محاولات "الترقيع" في نظام مستبد آيل للسقوط والتلاشي، إنما هي "طلعان روح"، وحيث تتقدم شعوبنا العربية في وعيها وفعلها، فإنما تفرض انحسارا تدريجيا على مظاهر الاستبداد، رغم أنه يستند إلى العصر الأميركي أحادي القطب، وإلى اتساع الهوة بين الغنى والفقر على الصعيدين العالمي والإقليمي، وها هي أميركا نفسها تخرج تدريجيا من بين مسامات جلودنا، ورغم التعرجات في التقدم والتراجع، إلا أن ما حققته أميركا وإسرائيل على حساب أوطاننا وشعوبنا، لن يدوم طويلا، وما النصر إلا صبر ساعة.
لقد انتهى عصر فرض السياسات بالقوة، وربما انتهت مظاهر حركات التحرر، لكن حلت مكانها انتفاضات الشعوب، وهذا ينطبق أيضا على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، باعتبار أنه أسوأ مظاهر وأشكال الاستبداد في المنطقة المستند إلى التمييز العنصري، وإلى احتلال أرض الغير بالقوة العسكرية.
المهم أنه كلما توغل العدو في اللحم الحي للشعوب، كان ذلك سببا في رد الفعل، وفي التحرك المضاد، ولعل ذهاب إسرائيل وأميركا إلى آخر شوط التنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية، كان السبب المباشر لتنصل السلطة الفلسطينية الفعلي وليس من خلال الإعلان الصاخب، الذي قد يرضي قادة الانفعالات والعواطف السياسية، من أوسلو والسير على طريق الانفكاك من العلاقة مع إسرائيل بكل أشكالها ومستوياتها.
فها هي السلطة ذاتها، وكرد فعل مبرر ومنطقي ومقبول على القرصنة الإسرائيلية لأموالها، ترد بفتح أسواقها للبضائع العربية البديلة، وهذا أمر يتخطى الإطار الاقتصادي، ليدخل في صلب السياسة، ذلك أنه معروف اليوم بأن الحروب التجارية لا تقل أهمية أو خطورة عن الحروب العسكرية.
هذا يعني أن دخول الأردن ومصر والعراق للسوق المحلي الفلسطيني، بأن فلسطين ترتبط مع أشقائها العرب وترسي دعائم العلاقة التي تتعدى الأخوة القومية، لذلك فمع مرور الوقت، سيكون لهؤلاء مصلحة خاصة في حماية الاقتصاد الفلسطيني، في حين ليس للاقتصاد الإسرائيلي أي مصلحة في تقوية أو نمو أو استقلال الاقتصاد الفلسطيني.
وحتى يفهم ضيقو الأفق أهمية هذه السياسة، نقول بضرورة تكامل أدوات الكفاح الوطني، بين شرائح المجتمع الفلسطيني بحيث كل منها يناضل من موقعه ضد الاحتلال الإسرائيلي وعلى طريقته وبالأداة التي تناسبه، وفي نهاية المطاف، فإن تحالف إسرائيل مع بعض الحكام العرب أو مراهنتها عليهم، إنما هي عابرة، ذلك أنه كما حمت حركة التحرر العربي حركة التحرر الفلسطيني وكانت حاضنة لها، فإن انتفاضة الشعوب العربية وثوراتها الناعمة ستكون هي الحاضنة الإقليمية لانتفاضة الشعب الفلسطيني وثورته متعددة الأشكال والأدوات والمستويات ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي نهاية الأمر، ما هي إلا سنوات قليلة، وتقف أنظمة الحكم الديمقراطي بشموخ في الدول العربية، جنبا إلى جنب الدولة الفلسطينية المستقلة، فيما أميركا ستعود إلى ما وراء المحيطات، وإسرائيل ستنكفئ إلى داخل حدود ما قبل 67، وستكون دولة مدنية لكل مواطنيها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية