ماذا يجري في العراق؟ ليس بوسعي أن أشخص بدقة ما يجري في العراق، ليس بسبب عامل "البعد"، ولا بسبب نقص المتابعة الحثيثة، وإنما لأن الأحداث ما زالت تتفاعل بوتائر سريعة ومتسارعة ومن هذه الزاوية يبدو أنه ليس بوسع أحد بعد ان يقف بثقة على ما يجري، وأن يطمئن الى دقة التشخيص، ولا حتى صحته وسويّته.
في هذه المرحلة من سير الأحداث الأفضل والأنسب أن لا يذهب التحليل نحو: من يقف وراء هذه الأحداث؟ أو لمصلحة من تجري؟، أو حتى من هي القوى القادرة على الاستمرار بها أو إجهاضها أو ركوب موجاتها؟
وهناك ما يكفي من المؤشرات (على الحالة العراقية وعلى غيرها) حول علمية هذا "التجرد" في الأسئلة المطروحة، وذلك لأن هذا "التجرد" بالذات هو الكفيل بكشف كنه الحالة او الظاهرة، أو جوهرها، في حين ان تحليل الظاهرة عَبر الإجابة المباشرة على تلك الأسئلة يُخرج مسألة الجوهر عن سياق التحليل، ويستعيض عنه بحسابات ومعادلات قد تلعب في أحسن الأحوال الأدوار المساعدة ليس أكثر.
المهم في الأمر كله هنا هو ان المطالبات والاحتجاجات قد تجاوزت التموضعات الطائفية، وتخطت بصورة لا تقبل الجدل كل ما كان من محاولات "محمومة" في مراحل معينة و"مسعورة" في مراحل أخرى، بهدف إخفاء حجم الفساد، وحجم النهب والسرقات، وهذا القدر الهائل من الاستهانة بلقمة عيش المواطن وكرامته.
باختصار أفلست ديماغوجية الطائفية وافتضح زيفها، وانكشفت بائسة عارية أمام المواطنة والمواطن، وتحولت الى مكرهة سياسية، واصبح الفلسطيني خلفها هو إمعان ومشاركة مباشرة وشريره في إفقار الناس ونهب البلاد والعباد، تماماً كما تحول هذا التلطي الى تغطية على أعلى معدلات للفساد على مستوى العالم كله.
مطالب عابرة للطائفيات وللأحزاب الطائفية، ولكل المنظومات الاجتماعية والثقافية لهذه الطائفية.
وان تكون هذه المطالبات، وبهذه الاندفاعة، وكل هذا الزخم في العاصمة العراقية بغداد، وباتجاه الجنوب فهذه ليست مجرد بشارة، وليست مجرد بارقة أمل وإنما (اتجاه) يؤشر على ما هو كائن، وعلى ما هو مكنون وعلى ما سيكون أيضاً.
الشيء المؤكد ان المنظومات السياسية ذات الصبغة الطائفية قد انهارت في أعين الناس على الأقل، والشيء المؤكد الآخر ان المنظومات الاجتماعية والثقافية قد دخلت في أزمة عميقة، وان الباب لم يعد موارباً أمام تقدم القوى المتنورة والعلمانية ومنظوماتها العابرة للطائفية، وإنما مشرع تماماً.
هذه القوى الخيّرة كما نعرف محاصرة منذ سنوات وسنوات، وهي محاربة أيضاً من المليشيات الطائفية الهائجة، وهي تتعرض لكل أنواع الاضطهاد والإرهاب الفكري والمادي المباشر، لكنها مع ذلك ما زالت مؤهلة قبل غيرها لاستثمار الهبات الشعبية ضد الفساد والظلم والإفقار المنظم.
حتى هذه اللحظة السلطة الحاكمة حذرة رغم هذا العدد الكبير من القتلى والجرحى، ولديها من التقديرات بأن هذه الهبّة اكبر من كل الهبّات السابقة، وان الوقوف في وجهها او قمعها هو انتحار سياسي معلن، وهي تفضل حل الحكومة على هذا الخيار، لكن هناك من سيعمل على التشدد في مواجهة هذه الموجة الشعبية، وخصوصاً الأحزاب المغرقة في طائفيتها، وقد تصل الأمور الى قيام حلف جديد بين هؤلاء وبين المليشيات المسلحة التابعة لإيران لقمع الهبّة الشعبية.
وبسبب الموقف "العقلاني" للمرجعية الشيعية فإن هذا الخيار ما زال قيد الدرس والتمحيص، ولكن منظومة الفساد التي تمثلها فئات شعية بعينها والتي تتحكم بالعاصمة وجنوباً لن تتورع عن القمع اذا شعرت ان هذه الهبّة يمكن أن تطيح بها، وبعد ان تحولها الى ركام سياسي منبوذ.
إخماد الهبّة لم يعد سهلاً ولا متاحاً عن طريق الوساطات والمناشدات بل ولا عَبر محاولات الالتفاف عليها.
والاستجابة المباشرة لمطالب الهبّة يوازي الهزيمة السياسية المدوية، وقمع الهبّة لن يجلب سوى تجريم الأحزاب والمنظومات الطائفية، ولا سبيل على ما يبدو غير برلمان جديد منتخب بصورة ديمقراطية شفافة ينتج عنه حكومة وطنية ديمقراطية تنسف واقعياً (وليس دستورياً بالضرورة) المحاصصة التي أفرزت هذا القدر الهائل من المحسوبية والفساد والنهب.
لا اعتقد ان إيران "ستتقبل" مثل هذا الخيار، ولا يمكن للأحزاب الطائفية ان ترتضي هذا التوجه، وحتى المرجعية نفسها لن تتحمس لوصول الأمور الى تلك الدرجة من التطور.
وبالمقابل لن تتراجع الهبّة، ولن تقبل بأنصاف وأرباع الحلول، لأن الدم العراقي الذي سال في شوارع المدن العراقية اكبر من كل هوامش المناورات والمساومات "المتوقعة".
العراق يدخل مرحلة "الكفر" بالطائفية، وهو يغادر ساحتها البغيضة، وهو في طريقه الى التعافي من هذا المرض الخبيث الذي زرعه جورج بوش بوعي ومكيدة وخسّة سياسية.
والعراق في هذه الأيام الذي يترحّم على ماضيه العريق، وعلى ماضيه السياسي القريب أيضاً، لا ينادي ولا يرغب بعودة كل أنواع الدكتاتوريات من كل الأنواع والمسمّيات، وإنما هو عازم على استعادة نفسه من الاختطاف والهيمنة التي امتدت لأكثر من عشرين سنة من الظلم والنهب والفساد والإفساد.
بشائر كبيرة ومضيئة وبوادر أمل تأتينا في عقر وأوكار الطائفية البغيضة التي عاثت في هذا البلد العظيم فساداً وظلماً وظلاماً.
العراق المعافى من الطائفية والظلم والفساد هو عنوان انتصار، وعودة للروح، وإعادة اعتبار لشعب من اعرق شعوب الأرض واكثرها سخاءً فيما قدمه للبشرية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد